في أواخر التسعينات من القرن الماضي عكف الدكتور جلال أمين على كتابة مقال شهري في مجلة الهلال تحت عنوان ثابت هو (ماذا حدث للمصريين) تناول فيه التغييرات الاجتماعية التي حدثت في المجتمع المصري خلال نصف قرن في مجالات عدة، كان يخضعها للتحليل ويتناول أسبابها وخلفياتها بأسلوب سلس أقرب إلى القصص، لكنه لا يخلو من عمق وبراعة في التقاط الجوانب الخفية في مظاهر ذلك التغيير. تحدث جلال أمين عن قضايا مألوفة مثل مركز المرأة والتغريب والتعليم والبطالة وكيف تأثرت تلك القضايا بالتغييرات السريعة التي مر بها المجتمع المصري خلال نصف قرن بين ثورة وانفتاح وثلاث حروب. لكن أجمل تلك المقالات هي التي تناولت ظواهر اجتماعية تبدو شديدة البعد عن المجال السياسي لكنها تأثرت به بشكل أو بآخر وعكست بطريقة خاصة نمطاً واضحاً من التغير الاجتماعي مثل عادات المصريين في (التصييف) و(حفلات الأفراح) و(اقتناء السيارة الخاصة) و(السينما). وكيف تغيرت على مدى ثلاثة أجيال عاصرها من جيل والديه وجيله هو وإخوته وجيل أبنائه وأقرانهم، وكيف ازدهرت عادة وانقرضت أخرى وتبدلت قناعات وتعززت غيرها بين تلك الأجيال. أعتقد أن ذات الفكرة تصلح مشروعاً لدراسة مماثلة شديدة الثراء وبالغة الإغراء في مجتمعنا السعودي. فعواصف التغيير العاتية التي مر بها المجتمع بين الطفرة النفطية وحرب الخليج وأحداث سبتمبر وما تخلل ذلك من تحولات وطفرات تقنية في التواصل كدخول القنوات الفضائية والهواتف الجوالة والإنترنت، كلها تستحق وقفة من عالم اجتماع أو مفكر متأمل يلتقط أثر تلك التغييرات على سلوكنا وطريقة تفكيرنا وتعاطينا مع الحياة والأحداث. بعض الجوانب تم الحديث عنها في مؤلفات عدة كتعليم البنات والمعارضة الشديدة التي لاحقته في بداياته هو والبث التليفزوني والبرقيات والهواتف وهي معارضة يمكن تفهمها في مجتمع محافظ يتعرض لتحديث سريع يرى فيه تهديداً لهويته، لكن ثمة ظواهر أخرى جديرة بالتأمل وجديرة بالنقاش والتحليل وتسليط الضوء عليها من باب التساؤل الخالد لماذا وكيف حدث ما حدث؟ فعلى سبيل المثال لماذا صمد الزي السعودي التقليدي المتمثل في الثوب والشماغ والعقال لعقود طويلة ضد أي تغيير جوهري يمس شكله ولونه الموحد ثم انهار فجأة أمام سطوة تصاميم وألون وتقليعات وزخارف لا تنتهي؟ هل للبعد الثقافي دخل هنا؟ هل لذلك دلالة أعمق على انفتاح فكري تجاه الآخر وبداية القبول بتداخل الثقافات؟ أم أنه علامة أولية على انقراض الثوب السعودي ذاته؟ نقطة أخرى تستحق التأمل هي نظرة السعوديين للعبتهم الشعبية الأولى (كرة القدم) كيف تطورت نظرة المجتمع لها؟ هل استخدمت أي جهة تلك الشعبية للتأثير أو لقيادة المجتمع في اتجاه معين؟ كيف كان الناس ينظرون للاعب الكرة في الماضي؟ وكيف تغيرت نظرتهم له في الوقت الحاضر؟ لقد تغيرت بدون شك الطبقة الاجتماعية التي كان يشغلها لاعب كرة القدم من المتوسطة أو مادونها لتصبح الطبقة العليا التي يشغلها النخبة من الأثرياء ووجهاء المجتمع. فهل تغيرت نظرة المجتمع للاعب؟ وكيف يتفق ذلك البذخ والإنفاق المبالغ فيه على لعبة كرة القدم الذي تضاعف عشرات المرات خلال العقود الأخيرة مع ذلك التراجع الكبير في مستوى اللعبة ككل وفي مستوى الدخل العام للمجتمع خلال نصف قرن؟ كيف تغيرت نظرة السعوديين للفن؟ هل يعتقد السعوديون بحرمة الموسيقى؟ ما هي طبيعة تلك العلاقة بين مجتمع يقدر الفن الغنائي ويشتري أكبر عدد من أسطوانات الغناء العربي والعالمي وفي نفس الوقت يقدر ويعلي من شأن المشايخ والعلماء الذين يقطعون بحرمة تلك الموسيقى بلا خلاف ويتوعدون سامعها بالعذاب؟ وهل حفاظ المجتمع على هذه الثنائية (تقدير الفن والدين) علامة صحية في عمومها أو أنها مرحلة لها ما بعدها؟ ما أثر التحولات الاقتصادية السابقة والقادمة على حياتنا العامة؟ على علاقتنا بالآخر؟ هل ستصمد (خصوصيتنا السعودية) مع أي هزة اقتصادية قادمة؟ ثمة كثير من الأسئلة المثيرة التي لا تنتهي والتي تحتاج إلى صاحب قلب جريء وفكر منفتح وعقل متيقظ للخوض فيها والبحث عن إجاباتها، ليخبرنا ليس بماذا حدث للسعوديين فقط بل بالجواب على السؤال الأهم (ما الذي سيحدث لهم عما قريب؟).