إنَّما الحَجُّ هو «التوحيدُ»: منهجٌ مقاصديٌّ لا عوجَ فيه، قال جابر بن عبدالله رضي الله عنهما وهو يَحكي حجَّةَ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: «فأَهَلَّ رسولُ الله صلّى الله عليه وآلهِ وسلّم بالتَّوحيدِ» [رواه مسلمٌ في كتاب الحج – بابُ حجةِ النبي] قَصَدَ بذلك التّلبيَةَ: «لبيك اللهم لبيك…» تلبيةً للدعوةِ وانقياداً للأمرِ واستجابةً بعد استجابةٍ، إنّه الالتزامُ بالعبوديةِ بقلوبٍ مطمئنّةٍ لا دَخن فيها، ليليها تالياً: « لبيكَ لا شريكَ لك..» نفي الشريكِ عن الله تعالى في كلّ أمرٍ لا يصحُّ أنْ يكونَ إلاَّ له وحدهُ مِن حيثُ ربوبيتُه وألوهيّتُه وأسماؤُه وصفاتُه وحاكميّتُه، وبهذهِ البراءةٍ الحقّةِ مِن كلّ شريكٍ تكونُ حينئذٍ التخليةُ في القصدِ رايةً ترتفعُ بأيدي عبادِ اللهِ المُخْلَصين ديانةً لا شعارَ سياسةٍ وشغبٍ مبين، وتمام معنى التوحيدِ يتجلَّى ثانيةً في: «إن الحمدَ والنعمةَ لك والملك» إثباتُ جميعِ أنواعِ المحامدِ كلّها لِمن هو لها أهلٌ تقدّسَ في ملكوتِهِ إذ كلّ يومٍ هو في شأن، وما بِنا مِن نعمةٍ فمنه جلّ في علاه ذلك أنّ الملك له إذ له الخلْقُ والأمرُ فمَا ثّمَّ ملِكٌ إلا هو. لا جرمَ إذن أنّ: «الحجَّ» إن بفرضيّتِه بوصفها ركناً مِن أركانِ الإسلامِ، أو بتأديتِهِ لِمن استطاعَ إليه سبيلا ، إنَما هو في الحالينِ منهجٌ: «مقاصديٌّ» ذو دالٍ توحيدِيٍّ كانَ من عظيمِ شأنهِ أن يستوعبَ الأمةَ كلّها في رداءٍ مِن (العبوديةِ) الخالصةِ لله وحدَهُ، وبذاتِ المنهجِ التوحيدِيِّ تتمحَّضُ: «تقوى القلوبِ» حيثُ يكونُ تعظيمُ شعائرِ اللهِ تعالى: «ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ»، وحسبنَا أن جِمَاعَ العباداتِ في تَجِلياتِ معانيها البدنيّةِ والماليّةِ ينتظِمُها: «الحجُّ» في مسَاقاتِ أركانِهِ، وشرائطهِ، وواجباتِه. كما أنّ مقاربةَ: «اليومِ الآخرِ» تتجسّدُ مشاهِدُه رأي العينِ في: «المشاعرِ» كلِّها وفي أوكدِ ما يمكِن أن تكونَ عليها الصورةُ المهيبةُ ليومِ التّغابنِ..، فتنخلِعُ لها إذ ذاكَ القلوبُ السليمةُ.. وبينما هي تؤدي مناسكها لاتُغادِرُها مشاهدُ القيامةِ ذلك لِمن كانَ لهُ قلبٌ ملبٍ بالتوحيدِ، وسَمعٌ شهيدٌ بالمتابعةِ لِمن قال: «خذوا عنّي مناسككم». وليس الأمرُ كذلك وحسبُ، وإنما هو دروسٌ فاعلةٌ في التوادِّ والتّراحُمِ تبثُّها إرساليات: «المناسكِ» مباشرةً ليتلقَّاها التقاطَاً الآحادُ من الناسِ وَفْقَ منهجٍ ربانيٍّ (رِساليٍّ)… لِتتحقَقَ – مِن ثَمَّ – مناطاتُ فقهِ: «إنما المؤمنون إخوة…» وليس ثَمَّ إلا الحجُّ موطناً لتَنَزُّلِها وكأنّها قرآن نزلَ لتوّهِ. ومِن ها هّنا عظُمَ جزاؤهُ إذ كانتِ الجنّةُ جزاءً للمبرورِ منه…