في أواخر حياة الشاعر (بيرم التونسي)، عصر عبقرية موهبته باللهجة المصرية الشعبية، التي كان أُسطُوناً من أساطينها، فأبدع وترنم بحبه للإله الخالق جلت عزته. وقبل وفاته سنة (1961م)، أهدى ترنيمته للصوت العبقري المثقف الشجي المهيمن على نغمات الشرق الأوسط (أم كلثوم)، فكان أن أعجبت بالكلمات كثيراً، ولكنها ترددت في غنائها، فالكلمات شعبية، وليست بالفصحى كالقصائد والتواشيح الدينية المعتادة، كما أنها خشيت أن لا تجد اللحن الطيّع، الذي يتناسب مع كلماتها السهلة الممتنعة، التي لم تكن دارجة في حينه. ومرّ عقد من الزمان قبل أن تقتنع بتقديمها الملحن (رياض السنباطي)، حين شعرت بأن أسلوب الغناء العربي قد تطور بدخول الأنغام والآلات المتنوعة. وكأنها وضعت السنباطي في تحدٍّ مع ما سبق وأن لحنه لها من التواشيح الدينية الرزينة مثل (سلوا قلبي)، و(نهج البردة). والأغنية تقر بعشق القلب للجمال، وأن العين ترى كثيراً منه، ولكنها لا تعرف حباً كحُب الإله الأعظم، ثم تقارن الكلمات بين هذا الحب في ديمومته وصدقه مع حب البشر الهش، فالله حبيب أوحد لا يعاتب ولا يلوم التائب. ويجري حوار تخيلي بين عبد يقرّ بذنبه، وبين معبود يتجلى نوره وينادي عبده بالتقرب منه، فيلبي العبد الدعوة لباب بيت الداعي، فيذكره الخالق بأنه قد رزقه وعلمه، وأن ما أهداه به من نعم لا تحصى، تستحق أن يُسَلم ويستسلم له بالطاعات. ثم يحكي لنا التائب عن وصوله بين الحجيج ملبياً إلى بيت المضيف الجواد، ويتغنى بمكة وجبال النور، وإطلالها على البيت المعمور، ودخول باب السلام، وروعة حمام الحمى وهو يحوم كنجوم السماء فوق الرؤوس مبشراً الضيوف بالعفو والرحمة تأكيداً لشفافية سمو اللقاء الروحي الرباني، الذي شمل بمحبته خط سير رفرفة أجنحة الحمام. وتختتم الأغنية بمشهد (خيالي)، يرى فيه العبد نفسه كالحلم وقد نزل ضيفاً بجنة الخلد، تنادمه الملائكة، وتبشره بالغفران، وبنعيم أبدي لم يخطر على بال بشر، فيدعو ويتمنى أن ينال أحبابه مثل ذلك النعيم مقابلين له. وقد وفق (السنباطي)، بتلحين الأغنية بلحنٍ عصي شجي على مقام (البياتي)، وشحنه بلمسات مرح وخفة مما يعدّ قفزة في التواشيح الدينية. وختم كل مقطع بقفلة، لا تعتمد على التكرار المعتاد في الأغاني العربية، فسادت نغمة متصلة متصاعدة إلى أن تصل ذروة الصفاء الصوتي، الذي تهيج معه المشاعر. والترنيمة تقول: (القلب يعشق كل جميل، وياما شُفتِ جمال يا عين واللي صدق في الحب قليل، وإن دام يدوم، يوم، والّا يومين واللي هويته اليوم، دايم وصاله دوم لا يعاتب اللي يتوب، ولا في طبعه اللوم واحد مافيش غيره، ملا الوجود نوره دعاني لبيته، لحد باب بيته، وامّا تجلى لي بالدمع ناجيته كنت أبتعد عنه، وكان يناديني، ويقول مصيرك يوم تخضع لي وتجيني طاوعني يا عبدي، طاوعني أنا وحدي أنا اللي أعطيتك من غير ما تتكلم وأنا اللي علمتك من غير ما تتعلم واللي هديته إليك، لو تحسبه بأيديك تشوف جمايلي عليك، من كل شيء أعظم، سلم لنا تسلم مكة وفيها جبال النور، طلّة على البيت المعمور دخلنا باب السلام، غمر قلوبنا السلام، بعفو رب غفور فوقنا حمام الحمى، عدد نجوم السماء طاير علينا يطوف، ألوف تتابع ألوف طاير يهني ضيوف بالعفو والمرحمة واللي نظم سيره، واحد مافيش غيره دعاني لبيته، لحد باب بيته، وأما تجلى لي بالدمع ناجيته جينا على روضة، هلّة من الجنة، فيها الأحبة تنول، كل اللي تتمنى فيها طرب وسرور، وفيها نور على نور وكاس محبة، يدور، واللي شرب غنى وملايكة الرحمن، كانت لنا ندمان بالصفح والغفران، جايه تبشرنا، يا ريت حبايبنا ينولوا ما نلنا يا رب يا رب توعدهم يا رب واقبالنا دعاني لبيته لحد باب بيته وأما تجلى لي بالدمع ناجيته). وتنتهي الترنيمة، ولا ينتهي معين الحب الصافي، وكثير ممن سمعوا الأغنية حينها لم يصدقوا ولم يستوعبوا أنها في محبة الخالق سبحانه وتعالى.