أشرت في مقالي السابق إلى شجاعة منى الطحاوي الأمريكية من أصل مصري حين أَخْفت معالم إعلان عنصري ينال من العرب والمسلمين ويؤيد إسرائيل نشر على جدران محطات القطارات الأرضية في مدينة نيويورك. وقد نشرت صحيفة نيويورك تايمز (4/10/2012م) تقريرا كتبته أشواق مسعودي بعنوان «إعلاناتٌ مناصرة للمسلمين ستعلق على جدران محطات القطارات الأرضية بجوار الإعلانات المضادة للجهاد» أشارت فيه إلى نية جمعيتين دينيتين إحداهما يهودية والأخرى مسيحية وضع إعلانات مضادة تحث على التسامح. يقول التقرير إن الجمعية اليهودية «رابائيون من أجل حقوق الإنسان، فرع أمريكا الشمالية»، والجمعية المسيحية «سوجورنيرز» برئاسة المؤلف المسيحي الناشط في مجال العدالة الاجتماعية جيم واليز ستقومان الإثنين القادم بالكشف عن حملتهما تلك. إذ ستضعان إعلاناتهما قريبا من الإعلانات المضادة للجهاد في المحطات نفسها التي نشرت فيها تلك الإعلانات، وهو ما أكده مسؤولو المواصلات في مدينة نيويورك. وتشير الجماعتان إلى أن التزامن بين حملتيهما والإعلانات المضادة للجهاد جاء بالصدفة. ويقلب إعلانُ جمعية «الرابائيون من أجل حقوق الإنسان» الإعلانَ الذي وضعته المجموعة المناصرة لإسرائيل رأسا على عقب. إذ يقول الإعلان المناصر لإسرائيل المضاد للمسلمين: «في أي حرب بين الرجل المتحضر والمتوحشين، ناصِر الرجلَ المتحضر. ناصِر إسرائيل. اهزم الجهاد». أما إعلان جمعية الرابائيين فيقول: «في حال الاختيار بين الحب والكراهية، اختر الحب. ساعِد على منع التحيز ضد جيراننا المسلمين». ويقول الراباي جيل جايكوبز، المدير العام لجمعية الرابائيين من أجل حقوق الإنسان، وهي الجمعية التي تضم رابائيين من التيارات اليهودية كلها: «نحن نريد أن نبيِّن أن هذا الإعلان رد فعل على الإعلان المضاد للإسلام». أما إعلان الجمعية المسيحية فيقول ببساطة: «أحبوا جيرانكم المسلمين». كما وضعت مجموعة مسيحية أخرى هي «اتحاد نساء الطائفة الميثودية»، وهي تابعة ل»اتحاد الكنيسة الميثودية» إعلانات مشابهة في المحطات العشر نفسها التي ظهرت فيها الإعلانات المضادة للمسلمين. وتقول إعلانات الجمعية التي وضعتها يوم الأربعاء: «إن خطاب الكراهية ليس خطابا متحضرا. ناصروا السلام بالقول والفعل». وكانت جمعية «المبادرة الأمريكية للدفاع عن الحرية» قد وضعت الإعلان المضاد للجهاد في عشر محطات قطار في جزيرة مانهاتن، ولم يوضع الإعلان إلا بعد أن حصلت الجمعية على حكم قضائي إثر تقدُّمها إلى المحكمة بشكوى ضد إدارة «مصلحة المواصلات المدنية» في مدينة نيويورك التي كانت تريد منع وضع الإعلان. وقد وضعت تلك الإعلانات في أواخر شهر سبتمبر في أعقاب الاحتجاجات العنيفة في عدد من مدن العالم الإسلامي ضد فيلم أنتج في أمريكا يستهزئ بالنبي محمد (صلى الله عليه وسلم)، وقد شوِّه أحد تلك الإعلانات بعد وضعه مباشرة (إشارة إلى ما قامت به منى الطحاوي). وتعرضت تلك الإعلانات للتشويه خمس عشرة مرة على الأقل بعد ذلك، كما يقول أهارون دينوفان، المتحدث باسم المصلحة. وقد غيّرت المصلحة من القواعد الضابطة للإعلانات لكي تمنع منها ما يمكن «أن يثير العنف بصورة مباشرة أو تعكير السلام أو يتسبب في ذلك. ويقول دينوفان إن إعلانات الجمعيتين «أجيزت وهي تتماشى مع تعليماتنا»، مضيفا: «إن المصلحة لا تتبنى أيا من الإعلانات التي نسمح بوضعها». ولم تَردّ المديرة العامة ل»المبادرة الأمريكية للدفاع عن الحرية»، باميلا جيلير، على الاتصالات التي طلبت منها التعليق على الإعلانات الجديدة. وقال الراباي جايكوبز: «تظن جيلير أنها تتحدث باسم اليهود (الأمريكيين) جميعا. إن عدد أعضاء جمعيتنا يبلغ 1800 راباي ونريد أن يعلم الجميع أنه يجب علينا أن نعمل بشراكة مع الجماعة المسلمة ونحن لا نؤمن بالانتقاص من إنسانيتهم». وقال مدير حملات جمعية السوجوريين، الراهب بيو أندروود: «إن أحد مبادئ المسيحية أن نحب جيراننا»، وأضاف: «إن أفضل إجابة في وجه التطرف الديني أن نعامِل الآخرين كما نود أن يعاملونا. إن إعلاننا رسالة بسيطة تمثل جوهر ديننا». وكانت جمعية السوجوريين قد نصبت، مع بعض الجماعات الدينية المحلية المختلطة، لوحات إعلانية تقول: «أحبوا جيرانكم المسلمين»، على جوانب الطرق في مدينة جوبلين، في ولاية مونتانا، حيث أحرق أحد المساجد في شهر أغسطس. وتقول إحدى رسائل جمعية السوجوريين التي تطلب فيها التبرع لها: «إنه لا ينتج عن الإعلانات التي تدعو لكراهية المسلمين إلا العنف والكراهية ومزيد من الخوف. إن من حق كل واحد -بغض النظر عن دينه أو اعتقاده- أن يَشعر أنه موضع ترحيب وآمن حين يركب المواصلات العامة في الولاياتالمتحدة». ودلالة هذا التقرير واضحة على أن من يثيرون العداء للعرب والمسلمين قلة متطرفة لا تمثل المجتمع الأمريكي. وهو واضح الدلالة على أن كثيرا من المنظمات المجتمعية، خاصة تلك التي تضم أتباع الديانات الأخرى في أمريكا، تقف في صف المواطنين الأمريكيين المسلمين من أجل سيادة السلام بين أطياف المجتمع الأمريكي المتعددة. كما يدل نشاط هذه الجمعيات الأمريكية، اليهودية والمسيحية، على عدم صحة التعميم الذي ينظر إلى الغرب على أنه كتلة واحدة. وهو ما يؤدي إلى قطع التواصل مع الفعاليات الناشطة في الغرب من أجل التوعية بقضايانا والدفاع عنها ضد التيارات اليمينية المتطرفة التي تشوه صورة العرب، وتدعم السياسات الأمريكية الحكومية المعادية لقضايا العرب السياسية وتناصر العدوان الإسرائيلي على حقوق الشعب الفلسطيني. إن الغربيين «ليسوا سواء»؛ فمنهم المتطرف، ومنهم المعتدل. وهو ما يوجب الاستفادة من هذا التنوع لتكثير الأصدقاء وتقليل الأعداء وبناء الثقة مع التيارات الغربية المعتدلة الفاعلة. وترسم هذه المبادرات العملية التي قامت بها هذه الجمعيات الطريقَ الصحيح الذي ينبغي أن يسلكه المنتمون إلى المذاهب الإسلامية في داخل العالم الإسلامي نفسه. ذلك أن الجدل الأكاديمي بين ممثلي هذه المذاهب لن ينجح في التقريب بين أتباعها ولن يحل القضايا التاريخية المعقدة التي يدعي كل واحد من الفرقاء أنه يمثل الحق فيها. أما هذه الخطوات العملية فتعمل على تجنب التناحر على «الحقيقة» الذي لا يؤدي إلا إلى مزيد من التناحر، والسعي إلى تجسير الهوة بإيجاد المشتركات التي يمكن أن تكون أساسا للتعايش. وكنت أشرت في مقال سابق إلى بعض الخطوات العملية التي يمكن أن تسهم في كسر حاجز الشك الناتج عن انكفاء أتباع كل مذهب على أنفسهم قرونا طويلة، وهو ما يستغله بعض زعماء هذه المذاهب لأغراض سياسية ونفعية أخرى.