مشكلة الصديق الوفي أنه كالنخالة مأكولٌ مذموم. فالنخالة تسد الجوع وتنقذ من الموت عندما لا نجد طعاماً سواها، إلا أنها بلا طعم، ولا لذة في أكلها. يقول الشاعر الأمريكي «إيدوين روبنسون» في قصيدته الشهيرة المسماة، ريتشارد كوري : «وهكذا مضت الأيام ونحن نحلم باللحم، ونسبّ الخبز». إنها الطبيعة الإنسانية. فنحن نميل دائماً إلى ما ليس في أيدينا، وننزع دائماً باتجاه ما لا نملك. الأمر بلا شك له علاقة بجشع النفس البشرية وميلها لامتلاك كل شيء وعدم إبقاء أي شيء. هذا الجشع بوابة من بوابات حبس الإنسان، المسمى بالنسيان. من هذا تنبو عيوننا عن رؤية الصديق الوفي الواقف دوماً وأبداً إلى جوارنا، يدعم قضايانا، ويخوض معاركنا، ولا ينطوي قلبه إلا على محبتنا، ولا يغلق ستار قفصه الصدري إلا على تمني الخير والسلامة لنا. إن في الإنسان رغبة دائمة في البحث عن (new business ) شؤون جديدة، أو فرص استثمار جديدة، أو في أضعف الأحوال علاقات جديدة مع وجوه جديدة لديها الجديد الذي تريد أن تقوله لنا. هذا الشوق الدائم للجديد هو ما أوجد ظاهرة الصديق المنسي. لكنه ليس السبب الوحيد، بل هناك أسباب أخرى. فلو كنت – مثلاً – ممن يتصدرون المجالس ويعبرون عن آرائهم في الجموع، فإنك في الغالب ستنسى ذلك الوجه الذي ينظر لك بكل محبة وإعجاب وإكبار، ولن تلتفت إلى حيث يجلس، لأنك ستكون مشغولاً بمحاولة كسب المخالفين المعارضين المشغّبين عليك. ستسعى لأن تكسبهم وإن كانوا لك كارهين قالين رافضين لذاتك قبل رفض حديثك. على الرغم من معرفتك العميقة الكافية بأن الأرواح جنود مجندة، وأنك مهما بذلت لن تستطيع أن تكسب الجميع، وأنك مع هذا قد غفلت عن ذلك الوجه المحب الباسم، وتركته يعاني الحيرة وألم التجاهل. تركته يشعر بشعور المنسي. ركضت تطلب ود من لا يودنك فأهنت نفسك. ونسيت أداء واجب الوفاء لمن يحبك حقاً فخسرت حبك. يرى الفيلسوف الإسلامي المغربي طه عبدالرحمن أننا كلما تأملنا في أحوال الإنسان في هذا الزمان واستغرقنا في التأمل، لم نزدد إلا يقيناً بأنه لا كائن أشد نسياناً منه. وعرّف طه عبدالرحمن الإنسان: بأنه الموجود الذي ينسى أنه ينسى. واختار أن اشتقاق اسمه ليس من « الأنس» ( بضم الهمزة ) بل من «النسيان». ولو صح أن اسمه اشتق من «الأنس» فهذا معناه أنه أنِس بما يجعله ينسى ما لا ينبغي نسيانه. أنه يأنس بكل ما يجعله ينسى أنه لا يملك من أمره شيئاً. وبرغم أن مقتضيات الأمور توجب على الإنسان أن يكون دائم التذكّر، إلا أنه لا يبرح ينسى في مسح دائم مستمر لذاكرته بحيث لا يكاد يبقى فيها شيء متماسك. وهذا النسيان قد جعل الموازين تنقلب، فما كان حقه أن يكون في أعلى المنازل، أصبح في أخس المواضع، وما حقه وواجبه السفول والانحطاط، قد سكن الآن أعلى المنازل. وهذا بدوره قد أفسد الجوهر الثمين فصار كالخسيس، فعندما تربط الحصان مع الحمار يصبح مثله. ثم لا يلبث الإنسان أن يلتفت لهذا العالم المبتدع الذي صنعه. إنه عالم مزيف بامتياز. لقد انقلب الحق باطلاً والباطل حقاً باختيار الإنسان، لأنه لا يريد أن يتذكر ولا يريد أن يذكره أحد بما يريد أن ينساه. إنه يريد أن ينسى أنه الحي، الذي يشيخ ثم يموت. إنه يريد أن يؤمن أنه الذي لا يموت ولا يفنى، والذي سيقتل الموت بحبة تشبه حبة «البانادول»، أو هكذا زعم. الخروج من حالة النسيان لحالة التذكر الواجبة ليس من المعادلات الصعبة على الحل. إنها حالة ككل حالات الخطأ تحتاج لوقفة تأمل. لحظة ينفصل فيها الإنسان عن اللحظة التي تستغرقه. هي قضية تحتاج لجلوس على أريكة في غرفة فيها الإضاءة خافتة حيث لا صوت على الإطلاق. يحتاج الإنسان مثل هذه الوقفات التي ينفصل فيها عن كل شيء ليقوم بشيء من التصور، شيء من محاولة إدراك اللحظة. هذا واجب. الوفاء واجب يحتاج الإنسان أن يقوم به وإلا فلن يجد ذلك الصديق المنسي إلى جواره، لأنه سيكون قد رحل.