وليس يدري من أين يأتي كل هذا العويل. بكاء مكتوم، يخرم القلب، حارق وثاقب ولا مصدر له، بل يأتي من كل ناحية، بكاء يقطره الوجع، عاصبا رأسه و فاتلا عضلته – من بين أضراسه – عن آخر ألمها. كأن حزنا عتيقا خزنته الثكالى، وعجنه أطفال يتامى بكعوب أقدامهم. حزن يسيل أبيض من دعاء عجوز «تالي» الليل، حزن تجمع من كل النوافذ، حزن فاض فجأة، وانفجرت شقوق الجدار. على دكة طين، تجد جسده متكوما من الأرق، أرقبه دائما متكئا على أي عتبة من عتبات السوق.. حيث الظهيرة قائلة بأعلى شمسها.. في سوق الحدادين، حيث يلمع السواد الحاد من أجساد مقوسة، تنتمي لمطروق النحاس، حيث الضجيج كابيا والأصوات تلتحي الرماد في نعاس الجمر، صيحات متناوبة، تطلق شهقاتها بين طرقات الحديد ونفخ الكير وهسيس المعدن ذائبا في ذاكرة الحديد.. الدخان أقل من هوية المطارق المتقابلة، وأسرع من شواظ حمرة الحديد غاطسا في الماء. يضع رأسه في الضجيج ويغفو، يحدق بشرار يتطاير ويذبل، وفي صدغيه تنبض المطارق، يمد يد الجائع للنوم، ويد تسند رأسه المشدود إلى صدره، جسده لا يلين مثل حديدة في البرد. ها هنا يجد ملاذا للنعاس بين قرع الصنوج.. حيث صخب المارة المتعثرين أمام الشرر والدخان متفلتين من حصار الدلالين الراجلين بالشتائم المغلظة، وشغب الباعة المكدودين بحمل بضائع مقلدة مسورة بأيمان منكوثة… خطوط العرق.. الرائحة الحريفة.. التعب الرازح على الأكتاف، والإنهاك البطيء. سألته أول مرة: لماذا تحمل ما لا نرى؟ وتسمع ما لا نفهم؟ فقال: كلما أخلو بنفسي، ويلوذ بي الصمت ويستفردني، يضج الكون بكاء لاطاقة لي بحمله ولا التآلف معه،… عويل حاد لا أعرف من أين يأتي، يحز أصابعي ويفطر كفي، لم أر من يبكي بهذه الحرقة ولو مرة واحدة، ليس رجلا ولا امرأة ولا طفلا.. لكنه بكاء موجوع لا تكفيه فكرة الانتقام. لم أفهم من أين له كل هذا الألم الذي لا ينتهي.. أي حزن لا يفتر هذا؟.. ولست أفهم لماذا يتقصدني من بين الناس.. هل يوجعني عمل لم أنجزه؟ هل هو ندم قديم لا أذكره؟ أو فائض ألم لا يسعه النسيان؟ يفر النوم حاملا أحلامه الثقيلة على ظهره .. تاركا جسدي معلقا، في انتظار الذبح. هكذا كان الطريد، يرمي بجسده في كل صخب، ليقبض على سنة من نوم، أو ليشوش على جبروت العويل. وما أن يسكن الناس في بيوتهم حتى يخرج صارخا في الهدأة، ليملأ الليل بعوائه حتى يصبح أنيسه الضجيج. لا يعلم بالتأكيد متى بدأ كل هذا البكاء.. كل ما يتذكر أن موتا خاطئا حرك الحصاة وانفجر الدمع، دفعة واحدة.