المثقف الفعلي هو الذي يعترف لخصمه بالحجة ويرد عليه بهدوء بعد استيعاب حجته بكل احترام، فهل ما يتم على طاولة المناظرات في العالم العربي هو علم يرتفع به مستوى الجماهير في حركة تنويرية؟ أم المزيد من الكراهية والاصطفاف طالما كانت مباراة بين متلاكمين؟ ربما يصدق عليه الوصف أنها مباراة في الملاكمة، أسلحتها كما في المباريات ضرباً باليمين، وتوجيه لكمة إلى الفك، وإنهاء الجولة بالضربة القاضية أحياناً بعد عشر جولات من فك الاشتباك! يمكن مراقبة الجولات العشر تماماً حيث يهجم كل خصم على خصمه بأشنع الألفاظ وقبيح التهكم والنيل منه أنه لا يفهم وأنه عميل وأنه جاسوس، كما صاح اللبناني في خصمه السوري مع احتدام الوطيس في برنامج الاتجاه المشاكس. ولكن هل يخدم سيل الاتهامات الوعي وحركة التنوير في ظلمات العالم العربي؟ العجيب في اللقاءات أنها ليست من شباب صغار، بل رجال علاهم الشيب وتقوست ظهورهم ولمعت صلعاتهم. ليس عندي تفسير لماذا اختفى صاحب برنامج الاتجاه المعاكس في أحلك الظروف مع ربيع ثورات العالم العربي، ليعود بعد ستة أشهر، فيقدم لنا حفلات من الملاكمة؟ لماذا اختفى؟ أو لماذا أخفوه؟ إنه سر لا يعلمه إلا إدارة الجزيرة ورجال المخابرات. ليس عندنا معلومات وليس أمامنا سوى التحليل والتكهن. لنأخذ الحلقة التي دارت بين الكيالي واللبناني. حين يعرض الموالي للنظام السوري صوراً يزعم فيها أن هناك مسلحين يضربون المتظاهرين وأنهم من خارج سورية، ثم يعرض صورة على الجمهور لا يصل منها سوى ملامح باهتة لا تصلح للتقييم العلمي. فنحن لسنا في جو علمي وبحث متأنٍ من أجل الوصول إلى درك الحقائق. نحن هنا أمام كسب المباراة بأي ثمن، والنظام السوري على كل حال بارع في المعركة الإعلامية، فقد قتل حتى الآن الآلاف والعالم لم يتخذ موقفاً صارماً من هذا السفيه! أذكر جيداً من تاريخنا حين دعا أحدهم الآخر إلى المناظرة، فقال على عشرة شروط: ألا تغضب، ولا تعجب، ولا تشغب، ولا تجعل الدعوى دليلاً، ولا تأتي بآية على مذهبك إلا جوَّزت لي مثلها على مذهبي، وأن تنقاد للتعارف، وتؤثر التصادق، وأن يكون الحق غايتك، والرشد ضالتك.