ما جدوى الكتابة؟ العالم لا يظهر سوى أسوأ ما فيه، بل ما الجدوى من كل شيء حين تنكسر صورة الأشياء الجميلة في داخلك، ولا تجد سببا وجيها يفسر لك سر هذا الانكسار، العالم يمضي إلى حتفه، وقضاياه السياسية والدينية والاجتماعية لا تعالج من منظور الحب والتواصل الإنساني، بل من منظور الحرب والعنف. تقلصت أحلام الناس، ولم تعد ذاكرتهم تتسع لمزيدٍ من التقلص.هل هذا هو المعنى الذي تصار إليه الحياة حين يكون العالم بهذه الصورة ؟ لا بد أن تكون هناك وشائج بين معنى الحياة من جانب وصورة العالم من جانب آخر، حتى نعتقد جازمين بهذه الصيرورة. الوشائج هنا لا تعني شيئا آخر غير الروابط المتينة التي تصنع ما نسميه الإنسان في هذا العالم: روابط تاريخية، روابط دينية، روابط اجتماعية وسياسية. مجموع هذه الروابط هي نسيج الهويات التي تتغذى على عقل الإنسان وروحه. العالم بمعزل عن صورة حياتنا عنه هو عماء مطلق، لذلك كيف نفهمه بالعمق الذي تواجهنا فيه قضاياه بعنف لا يمكن استيعابه؟ الذين حاولوا الفهم سقطت فوق رؤوسهم حجارة الأوهام. كل حدث عالمي يقع كالصاعقة على حياة الناس تتلوه محاولة للفهم. لكن ما يجري مع الخطابات الفكرية والفلاسفة والمفكرين هو عكس ذلك. يُنسى الحدث ويتضاءل حجمه في الذاكرة، وإذا ما صمد فإنه يتحول إلى أيقونة يمكن توظيفها جماليا وسياسيا أيضا، بينما تجربة الفهم تعود خاوية الوفاض بلا أثر يذكر كما لو أنها مقاربة لم تحدث أصلا. ثم ماذا؟ تعود هذه المحاولة من جديد مع كل حدث آخر، رغم الدروس التي يخرج بها هذا المفكر أو ذاك الفيلسوف من تلك المحاولة. لا مفر – إذن – من المتاهة، ولا سبيل للخروج منها. العلم يقنعك بالتطور، ويجبرك العيش على إيقاعه، والفلسفة بعد صولات وجولات الماركسية انزوت داخل اللغة، وأخذت تتحسر على ماضيها. والدين انفصل تماما عن الثقافة، وأخذ يقدم نفسه للعالم من منظور تأثير العولمة، والحلول التي يقدمها هي في حد ذاتها تشكل أزمة تكبر مع كل صراع ديني أو طائفي. لم يتبق سوى الأدب الذي هو أيضا لم ينجُ من تبعات هذا الوضع الذي يسود العالم حاليا. كان الأدب فعل مقاومة ضد التصحر في العلاقات الإنسانية، وفي العلاقات بين الشعوب، لم تمر فترة من التاريخ لم يكن للمخيلة الأدبية دور فعال في صناعة القيم الإنسانية للمجتمع. الآن الأدب مجرد سلعة ضمن ثقافة رأسمالية معولمة، ولا صفات تمتاز بها هذه السلعة سوى أنها خاضعة لقيم السوق. لم يعد له قيمة في الفعل الإنساني، أي أن الأدباء بالمجمل لم يصبحوا محور التأثير في العالم كما كانوا إلى وقت قريب. مرة قال الأديب والشاعر المكسيكي أكتوفيو باث، بمناسبة فوزه بجائزة نوبل للآداب ما معناه: إن فكرة وجود أسلحة الدمار الشامل فكرة مرعبة تعطي تبريرا مشروعا للأدب في البحث عن النهايات. هذا البحث لم ينسحب فقط على الأدب، بل وجدنا صداه في قلب التفكير الفلسفي الغربي. هذه النهايات التي لا تعني سوى قرب موت الإنسان، وانحسار حياته على هذه الأرض، وجميع الفلسفات الحديثة تتكئ على هذا المنظور من قريب أو من بعيد. العالم في لحظته الراهنة لا يصنع نجومه ورموزه من الأدباء والمفكرين والفلاسفة كما كان الحال عليه في القرن الثامن عشر والتاسع عشر، بل يصنعها من خلال كل ثقافة قابلة للإشهار والتداول كسلعة. لا تجود قيمة ثابتة تخضع لها رموز هذه الثقافة، معيار قيمتها الوحيد هو «الموضة». وهذه بدورها خاضعة للتبدلات والتحولات والتغيرات، حسب سرعة تطور العلاقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية بين المجتمع الدولي. بهذه الكيفية التي نتصورها للعالم كيف تستقبل المجتمعات قضاياها وأزماتها؟ وليس المقصود هنا بالاستقبال سوى ثقافة تلقي الأحداث والوقائع على مستوى الجماعات وليس الأفراد. وإذا ما وضعنا في اعتبارنا أن عولمة المشاعر والأحاسيس مثل الغضب والحب والحزن والفرح جميعها من سمات الثقافة المعاصرة، فإنه يمكننا القول حينها إن مثل هذه القضايا تصبح بلا هوية ولا ملامح، وكلما حاول المفكرون أو المحللون عقلنتها سواء على الصعيد الفكري أو السياسي، فإنها تنفلت عن كل تحديد، وتصبح مراوغة بالقدر الذي تكون في نظر الخطاب الإعلامي واضحة ومفهومة ولا تحتاج إلى تأويل أو تفهم. لنأخذ مثالا بسيطا على وضع كهذا. الممثلة الأمريكية أنجلينا جولي التي تشغل منصب سفيرة النوايا الحسنة للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، هي نموذج يمكن القياس عليه حول تمثّل قيم الخير وما ترتبط بها من أزمات وصراعات، ونظرة كل ثقافة أو مجتمع لها انطلاقا من عاداته أو موروثاته. بالمفهوم المعاصر للثقافة تعتبر أنجلينا جولي بسبب نجوميتها وشهرتها أيقونة مؤثرة على شرائح عديدة من البشر. لذلك تكمن أهميتها في فعل الخير من هذا المنطلق، هذه النجومية أصبحت تتوافق وفعل الخير الذي بدأ ينتشر بوعي بين نجوم الغناء والممثلين والصحفيين واللاعبين أيضا. هذا الانسجام غير مقبول على الإطلاق عند ثقافة المسلم التقليدية. يرى فيها تناقضا وفق ثقافته الموروثة. منظومته الأخلاقية تفرض عليه أن يرى أنجلينا جولي محتشمة لا تظهر شبه عارية لا في الأفلام ولا في الواقع، ملتزمة بتعاليم دينها حتى وإن كانت مسيحية، تطبقه بحذافيره، عندها يمكن أن يرتفع مثل هذا التناقض، ويقبل عن رضا ومباركة أعمالها الخيرية. وجه الاستشهاد هنا هو حالة الإرباك التي تعلو كل حدث يتم استقباله في العالم العربي والإسلامي. لم يخرج لنا مفكر واحد يتأمل هذه الطريقة المربكة في استقبال مثل هذه الظواهر. وعوضا عن تأمل قيمة الخير في الثقافة المعاصرة بوصفها نتاج تحولات وتراكمات على مستوى الاجتماع والمعرفة والدين، تؤدي بالضرورة إلى توافقات في النظرة إلى الحياة بعد مسيرة طويلة من التناقض والصراع كما حدث في الغرب، فإن الغالب على مجال استقبالنا هو ضياع مثل هذا التأمل في تقاليد وردود أفعال لا تتجاوز المشاعر والأحاسيس، وهذه بدورها كما قلنا معولمة، حيث تأثيرها الجماهيري أكبر وأكثر فاعلية. أليس هذا ما حدث مع قضايا وظواهر أخرى؟ ألم نتساءل منذ متى تحولت قضايا المساس بالرموز المقدسة عند الشعوب بغض النظر عن كونها مسلمة أو لا إلى قضايا سياسية تدخل في تركيبة العلاقات الدولية، وتؤثر فيها من العمق؟ هم (أي الأسرة الدولية) يرجعون هذا التحول إلى ثغرات لم تسد في الدساتير الغربية فيما يتعلق بالشأن الديني في علاقته بالمجال العمومي للدولة، وحينما تنتشر الإحصائيات عن انتشار الإسلام في أوروبا، لا يبادرون إلى اللطم والعويل، بل إلى التحليل العقلاني الذي يبحث في الأسباب والمسببات. بينما درجة استقبالنا لمثل هذا الانتشار يقابل بالتهليل والتكبير. هذه مع الأسف ردود أفعالنا التي جعلتها العولمة فرجة على مسرح الحياة.