قلنا إن حقبة ما بعد الحداثة قد قتلت الإنسان الذي ألهته الحداثة. وإن الإنسان الذي خرج من عصر القرون الوسطى متخليا عن كل مرجعياته العليا واضعا نفسه في المركز، قد صدم في القرن العشرين بالآلة التي استغنت عن كثير من خدماته وكسرت كبرياءه. وإن العالم قد تحوّل لبوتقة يطبخ فيها كل شيء حتى فقدت الأمم كل مميزاتها الوطنية والقومية وفقدت هويتها. ولم تسلم تضاريس الأرض من تحكمات ما بعد الحداثة فقطعت أشجار الدنيا لتكون وقوداً لنيران المصانع بصورة غير مسبوقة وهدمت الجبال لتكون طرقاً سريعة. وحتى في عالم محافظ كالجزيرة العربية، وجدت ما بعد الحداثة لها طريقاً بحيث ترى الفنادق التي صممت على نفس نمط الفنادق العالمية، وصرت ترى أشهر الفنادق العالمية تقام في الصحراء القاحلة. إنه إصرار عجيب على أن تكتمل خطة البوتقة. ولعلي لم أشدد في السابق على أن القضية ليست اختيارية البتة، بل هناك من يسعى بكل قوته لكي يفرضه فرضاً على الناس وعلى كل بقاع الأرض. ومن يقرر أنه سيرفض الانخراط في عالم البوتقة هذا سوف يحارب حرباً لا هوادة فيها، وسوف يقصى ويبعد وتمارس كل ضغوط الدنيا عليه، فعليه إن نوى ذلك أن يربط بطنه بحزام وأن يستعد بكل وسائل الاستعداد، فالتحديات بلا شك سوف تكون كبيرة جدا، فالأمر جد، غاية الجد. قد يقول قائل إنني قد قسوت في تصوير عالم ما بعد الحداثة، وأن دعاة القوة و العنف والسيطرة من المفكرين والمنظّرين، هم بعض وليسوا كلّا. وهذا صحيح ولا شك، إلا أن هؤلاء لم يعد لهم قيمة خارج عالم الكتب، فقد فقدوا كلّ شيء لصالح دعاة الهيمنة والقوة من فلاسفة ما بعد الحداثة الذين حدث بينهم وبين الإمبريالية العالمية عقد قران واتفاق في الرؤى والأهداف والطموحات الكبيرة في الهيمنة الكاملة الدائمة التي لا تنتقض عراها. بل يحلم هذا الحلف حقاً وهو الذي لا يؤمن بحياة بعد الموت، بأن هذا الحال سيكون هو نهاية التاريخ. هذه البوتقة تريد أن تكون نهاية فيلم الحياة فلا يحدث بعده شيء، وليس لنا من وجهة نظرها أن نتوقع أية أحداث جديدة وراءه. وهنا يكمن التحدي، إن كانت ما زالت لدينا القدرة على الشعور بمثل هذه المشاعر، أقصد الشعور بالتحدي. كيف تكونت هذه الإمبريالية ومن أين جاءت؟ في التاريخ الفلسفي للعالم الغربي كانت هناك حقبة وسيطة بين الزمن الإغريقي الذي تمّ استلحاق نسبه فيما بعد، وبين الحقبة الحديثة، مع ملاحظة أن الحقبة الحديثة لا تعني المعاصرة بل الحقبة الحديثة تبدأ من القرن السابع عشر عندما دشن «رينيه ديكارت» الفرنسي و»فرانسيس بيكن الإنكليزي» منهجية جديدة في التفكير تبتعد شيئاً فشيئا عن تفسير الإنجيل والتوراة للكون والحياة، وتلك الحقبة الوسيطة، كانت تسمّى الحقبة المسيحية. برغم أن تلك الحقبة الوسيطة شهدت مجازر من أبشع مجازر التاريخ، أعني الحملات الصليبية لاستعادة القدس، وأن الملوك في إنجلترا والسويد وألمانيا وغيرها، كان الواحد منهم يشعر بضرورة تحقيق إنجاز كبير يكفل له المكانة المهمة في القارة الأوروبية، أو ما يجعله ملكاً متوجاً لكل أوروبا بعد انهيار الإمبراطورية الرومانية الغربية، وبدء عصر الدويلات، وبرغم تحول الحروب الصليبية باتجاه الأطماع الشخصية بعيدا عن الأهداف المسيحية، إلا أنه بزغت تساؤلات أثارها بعض عن هوية المسيحية هنا. وذلك بالسؤال: أليست المسيحية هي المحبة والرحمة؟ فما بالها ارتكبت تلك المجازر الرهيبة المتتالية في حروبها الصليبية ببلاد الشام؟ فكان الجواب التدريجي عن هذا السؤال، ليس بالخجل أو الشعور بالتناقض، بل بالتخلي عن (مسمّى) العالم المسيحي، والاستعاضة عنه بمسمّى العالم الغربي. وهذا التحول التدريجي قد التقى مع المناهج المادية في البحث ووجد فيها حليفاً حميماً. مناهج البحث المادية تحدثت عن الإنسان الذي هو مركز الكون من وجهة نظرها، وفي مقابله هذا الكون وهذه الطبيعة التي يجب أن يسخرها لمصلحته، وهنا تدخلت الإمبريالية الجديدة وأجرت تعديلاً «طفيفاً» على شعار العلم المادي، فبدلاً من القول إن الطبيعة في مواجهة الإنسان وإنه يجب تسخيرها، تم إضافة كلمة واحدة فقط هي «الغربي» فأصبحت الإنسان الغربي في مواجهة الطبيعة وكل إنسان ليس بغربي، ويجب على الغربي تسخير الطبيعة وكل من ليس بغربي لمصلحته.