منذ انهيار المعسكر الماركسي السوفييتي السابق، أغرق العالم في بحر من الرأسمالية (وخاصة المطلقة).. وهي المذهب الاقتصادي الذي يعده الغرب البديل الأفضل ل «الماركسية»/ الاشتراكية، وخاصة السوفييتية. هذا اقتصاديا، أما سياسيا، فجرى التأكيد على الليبرالية -بمفهومها الأمريكى فقط- أكثر. وبعد حوالي عشرين سنة، من هذا السقوط المريع، يثار الآن -في أوساط الغرب، وغيره- تساؤل مهم، مفاده: هل العالم اليوم، أفضل (اجتماعياً وأمنياً واقتصادياً وسياسياً) عن ذي قبل؟!وبمعنى آخر: ما مدى فعالية هذا الحل الرأسمالي (خاصة في صورته الاقتصادية المتطرفة) وما يتبعه، في التخفيف من: شدة ووطأة «العناء الإنساني».. المتمثل في استحكام حلقة «الفقر – الجهل – المرض»… ؟! وما مدى مساهمة ذلك الحل (الاقتصادي – السياسي) في تخفيف قسوة «الكبد»، الذي تعاني منه البشرية، كشيء طبيعي، ناتج عن طبيعة «الحياة» ذاتها، وظروف العصر؟!يبدو أن الجواب الموضوعي، الذي يقوله معظم المعنيين المتابعين، والذي يشير إليه الواقع الفعلي، العالمي والدولي (والذي تؤكده بعض وسائل الأبحاث والثقافة والإعلام الغربية) هو: أن العالم ليس بأحسن، من ذي قبل.. بل هو أسوأ مما كان عليه، منذ عشرين سنة خلت. فسياسياً، مازالت مبادئ الحرية والعدالة والمساواة، بعيدة عن متناول كثير من شعوب الأرض، ومازالت كثير من الصراعات دون حل منطقي.. بل إن هناك صراعات كثيرة، نشأت، وتفاقمت، بسبب الظروف والسياسات «الجديدة». كما اشتعلت حروب عرقية واستعمارية، لا حصر لها، خاصة بعد إحياء الطائفية -عن قصد- في كثير من الأرجاء.. ومازالت بعض شعوب العالم (وفي مقدمتها: الشعب العربي الفلسطيني) محرومة من «حق تقرير المصير».. وغير ذلك، من المآسي المعروفة، والمألوفة في الوقت الحاضر. ومازالت السياسات الانتهازية، وسياسات الظلم والقهر والاستعمار غير المباشر، تزاول من قبل القطب وحلفائه المتنفذين، وبوقاحة غير مسبوقة. أما اقتصادياً، فقد ازداد الفقراء فقراً، على فقرهم.. وازداد أكثر الأغنياء غنى وتخمة، وسطوة.. وارتفعت مديونية كثير من دول العالم النامي، وتدنت درجة نموها الاقتصادي، وكثرت المجاعات، وزاد معدل البطالة، وتفاقمت المشكلات، الناجمة عن: ازدياد الفقر، وتصاعد معدلات البطالة، في كثير من دول العالم النامي، بخاصة. وشهد العالم، منذ العام 1991م، ارتفاعاً مرعباً، في نسب التضخم، ومستويات الغلاء والأسعار، وفروق العملات..إلخ . كما شهد «الأزمة المالية العالمية» التي كادت تطيح بكامل النظام القائم. إذ طالت هذه الأزمة عرابي النظام قبل أن تطال غيرهم.واجتماعياً، تأثرت كثير من القيم «الطيبة»، بالسلب، وطغت المادة على العلاقات الاجتماعية، وتدهور مستوى الصحة، وانتشرت بعض الأوبئة والأمراض المهلكة، وكثر النفاق الاجتماعي، والتكالب على المظاهر الفارغة، وزادت مظاهر «تقليد الأغنياء».. وتصاعد الإقبال على تعاطي المخدرات، وغسيل الأموال، وامتهان الجرائم المنظمة.. إلخ.أما أمنياً، فمازالت أسلحة الدمار الشامل تهدد البشرية كلها، بالفناء.. وما طفقت مصانع الأسلحة تتبارى في إنتاج الأسلحة الجديدة والمطورة، والفتاكة، وتزيد من درجة فعاليتها، في القتل والدمار، يوماً بعد يوم.. وتسعى لتصدير بعضها مساهمة في القتل والتدمير. وازداد تجار الحروب سطوة وشراهة. وانتشرت الجريمة، وتصاعدت ظاهرة «الإرهاب»، وإرهاب الدول، بشكل لم يسبق له مثيل من قبل.يعايش الناس هذه التطورات، في الوقت الذي تحاصرهم فيه مظاهر «الاستهلاك الشره»، من كل جانب..إذ زادت (مثلاً) الإعلانات عن البضائع والخدمات المختلفة.. وتصاعدت درجة توفر تلك البضائع والخدمات، بسبب التقدم الهائل في وسائل المواصلات والاتصال. ولاشك أن الخاوية جيوبهم لن يستطيعوا عمل أكثر من قراءة تلك الإعلانات، والتأمل في تصميماتها المبتكرة.. وربما شراء شيء من المرطبات، والأطعمة السريعة، فقط. هذه الدعايات الكثيفة، إذن، وضعت لجذب القادرين.. وعددهم أصبح في تناقص، في كثير من دول العالم، وخاصة النامي. وتواصل ترويج كثير من الشعارات البراقة.. الصادرة من القلة المستفيدة من هذه التغيرات هذه المرة. ونذكر أهم أسباب هذا الواقع العالمي.. في المقال القادم. وعندما تعرف «الأسباب» يعرف «العلاج»، ويسهل.