لقد حاولت في حديثي السابق التقديم والتحضير لنقاش يتمحور حول شخصيتنا العربية تحديداً. شخصيتنا نحن بطريقة تفكيرها ورؤيتها للأمور، وفي تعاطيها مع المواقف اليومية المعيشة، وفي ممارساتها الحياتية اليومية وفي ردود أفعالها أمام المواقف والأفكار وكيفية تعاملها معها. ففي كل مجتمع بشري هناك نوع من السلوك وطريقة التفكير وفي التعامل مع أمور الحياة الذي يكاد يكون متشابهاً تماماً ما بين الأفراد الذين يتشكل منهم هذا المجتمع، ولو نظرنا لأنفسنا ولغيرنا من الناس المحيطين بنا والذين يعيشون ويفكرون بشكل أو بآخر بذات الطريقة التي نعيش ونفكر بها؛ لوجدنا وبشكل مباشر أن غالبية مشكلاتنا وصراعاتنا الشخصية مع الآخرين ومع الحياة ومع أنفسنا هي في الغالب إشكالية ثقافة مجتمع (أي طريقة معيشة وتفكير المجموعة وهم الغالبية العظمى من الناس في مكان ما) أكثر منها إشكاليات فردية. بهذه الكيفية من التعميم لشخصية الكائن البشري، يرى ويقيّم وينظّر علماء الاجتماع والمختصون بعلم الإنسان طريقة تعاطينا مع الأمور الحياتية اليومية التي لا نستشعرها، وهكذا أفترض أنا شخصياً. فإن سلّمنا جدلا بإمكانية اعتماد هذا التعميم كمرجعية ورؤية، فغالب ما يميز طريقة تفكير فرد ما في الهيئة التي تمكّننا من تعميمها كطريقة تفكير أو طريقة حياة كشكل سائد في مجتمع ما، هو الخطوط العامة لهذه الشخصية ومدى طريقة تقييمها للأمور وردة فعلها غير الواعية (أي انفعالها) تجاه موقف ما، سواء كان هذا الموقف فكرياً كوجهة نظر أو مادياً كموقف حياتي ملموس. من جانب آخر، يعتقد علماء الإنسان أن سيادة شخصية ما كصفة غالبة لمجتمع ما هي مسألة نسبية أيضا تختلف نسبتها من مجتمع إلى آخر، في المقابل يعتقدون أنه ليس من الصعب إدراك مدى مقادير ونسب وأحجام ما يسمى بالذات الجماعية والذات الفردية، (أي مدى سيادة القدرة على التفكير بصفة فردية خالصة ترتكز على التباين في القدرات والمنطلقات ما بين الأفراد أو سيادة تفكير الجماعة بشكل قد يكون ديكتاتورياً في بعض جوانبه)، في هذه الثقافة من ناحية، ومدى تنظيمها ووضوحها من الناحية الأخرى. فعلى سبيل المثال تعد الذات في الشرق الأقصى هي ذات جماعية أكثر منها فردية سواء في طريقة تفكيرها وتقييمها للأمور، أو في ردات فعلها وتعاطيها المباشر معها وفي علاقتها مع الآخرين ومع ذاتها (أي تقييم الذات)، ولكن هذه الجماعية في التفكير وفي التعامل تأخذ شكلاً منظماً من السهل فيه فصل هذه الذات الجماعية عن الذات الفردية بعكس المجتمعات الشرقية (العربية والشرق أوسطية عامة) التي توجد فيها الذات الجماعية والذات الفردية متداخلة وهلامية بشكل مفرط من الصعب تحديد المعالم أو الأولويات فيها. في المقابل هناك في مجتمعات أخرى ذات فردية أحادية تتمحور فيها جميع جوانب الحياة حول الفرد ومن ثم تغرق الشخصية الإنسانية في فرديتها ووحدتها أيضا كما هو الحال في المجتمعات الغربية المعاصرة، التي تبقى فيها الذات البشرية على فرديتها الموحشة أكثر تنظيما ووضوحا من الذات الشرقية (العربية) المتداخلة بشكل مفرط ما بين فرديتها وجماعيتها. برأيي أن الانتقال السريع الذي حدث للمجتمعات العربية وتحولها من مجتمعات بسيطة تغلب فيها حياة الجماعة على حياة الفرد الشخصية وخصوصيتها، إلى مجتمعات كبيرة ومعقدة سواء في طرائق المعيشة ومتطلبات الحياة اليومية أو حتى على مستوى تنوع مصادر المعلومات والأفكار بالشكل الذي يخلق معه وبشكل طبيعي تبايناً كبيراً في الشخصيات والرغبات والرؤى وطرائق التفكير. هذا الانتقال السريع على مستوى المعيشة وشكل المجتمع الخارجي لم يوجد معه وبشكل متوازٍ انتقال على مستوى العلاقات ما بين الأفراد ومدى سلطوية المجتمع وطريقة تفكيره العامة على الفرد، وقدرته على التماهي مع أفكاره ورغباته ورؤاه الشخصية وتطبيقها على الأرض كطريقة حياة بدون ضغوط مباشرة من المجموعة المحيطة به التي قد تؤدي في أعلى مراحلها إلى نبذ وتحييد هذا الفرد لمجرد محاولته العيش بطريقة قد تكون مختلفة قليلاً أو كثيراً عنها. هذا التباين برأيي ما بين رؤى ورغبات وطريقة تفكير الفرد من ناحية، والمجموعة المحيطة به من ناحية أخرى، وفي ظل عدم قدرة هذا الفرد على التعبير عن قناعاته ورؤاه الشخصية، ومن ثم العيش من خلالها بسبب الضغوط المحيطة به، خلق شخصية معقدة ومركبة ومتداخلة تحمل في جنباتها منظومة مشاعر ورغبات ودوافع متناقضة حتى على الإنسان العربي الذي لا يستطيع حتى هو تحديد ملامح شخصيته في ظل هذه التنازعات التي تتجاذبها. وسأحاول من خلال طرحي القادم محاولة تسليط الضوء على بعض هذه الملامح المتداخلة والمتناقضة في شخصيتنا العربية.