نعمه سبحانه وتعالى على عباده لا تحصى، بل هيهات أن يستطيع أيٌّ منهم مهما أوتي من العلم أن يحصيها، ولكنه قد يعرف ما يفتقده منها، وتدوم نعم الله وتزيد بحمده وشكره، وتُنْتَقص أو تقلُّ بركتها بالجحود والنكران، ويتفاوت خلقه فيما بينهم بنعمه لحكمة منه تعالى في ذلك، وتكون لبعضهم في جوانب أكبر منها في أخرى، ويحرم الله بعضاً من بعضها أو ينقصها، وربَّما في ذلك خير لا يعلمه المحروم ولا يتبيَّن خيريَّة حرمانه منها، فسبحانه وتعالى مقسِّم نعمه على عباده منذ خلقهم وحتى مماتهم. قال تعالى في سورة الشورى: (لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ 49 أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا ۖ وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ 50(، وقال في سورة النحل: (وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ 58 يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاء مَا يَحْكُمُونَ 59(، وهكذا يقسِّم الله نعمَه على عباده فيما يرزقهم من أولاد كما في الآيتين الكريمتين من سورة الشورى، وهو سبحانه العليم بذلك والقدير وذو الحكمة فيما قسمه لكلٍّ منهم وقدَّره لهم، وعلى عباده الرضا بذلك والحمد والشكر على ذلك، إذْ ليس من الحمد والشكر ما أورده تعالى في الآيتين الكريمتين من سورة النحل، حيث لا يعلم المولود له هل الخير له بالذكر أم بالأنثى. ومن حمده سبحانه وتعالى وشكره أن ينهض الأب بمسؤوليَّاته تجاه ذريَّته، وتلك مع بناته أوجب وأدعى لمرضاته تعالى، لقوله عليه السلام: (من ابتلي من البنات بشيء فأحسن إليهن كن له ستراً من النار)، ولقوله عليه السلام: (من عال جاريتين حتى تبلغا، جاء يوم القيامة أنا وهو، وضم أصابعه)، ومن إحسان الآباء لبناتهم تيسير أمور زواجهنَّ وعدم عضلهنَّ (منعهنَّ عن الزواج)، هذا الذي دفع ببعضهنَّ للتقدُّم للمحاكم الشرعيَّة شاكيات آباءهنَّ في ذلك، فقد نشرت صحيفة «الشرق» في عددها 262 تحت عنوان: «الرياض الأولى في قضايا العضل وعنيزة الأقل» نقلاً عن إحصائيَّة لوزارة العدل كشفتْ أنَّ محاكم الرياض سجَّلتْ من قضايا العضل 71 قضيَّة، فيما سجَّلت محكمة محافظة عنيزة أقلَّ عدد قضايا عضل على مستوى المملكة، وذلك بواقع قضيَّة واحدة، وذلك للأشهر التسعة الأولى من هذا العام 1433ه. وبقدر ما آلمتني إحصائيَّة قضايا العضل كظاهرة في مجتمعاتنا أسعدني ورود محافظة عنيزة باعتبارها الأقل في قضايا العضل على مستوى المملكة، علماً بأنَّها إحصائيَّة لا تحصر المعضولات، فهي تشير فقط للمتقدِّمات بقضايا ضدَّ عاضليهنَّ، فهناك أسباب كثيرة تمنع معضولات كثيرات من رفع قضاياهنَّ للمحاكم الشرعيَّة، فلو قلتُ: لا أظنُّ نسبة الشاكيات تتجاوز 1% من أعداد المعضولات لما جانبتُ في قولي الحقيقة. يعضل آباءٌ بناتهم الموظَّفات طمعاً في رواتبهنَّ، ويعضلونهنَّ انتقاماً من أمَّهاتهنَّ المطلَّقات، ويعضلونهنَّ بفعل عادات وتقاليد قبليَّة تمنع تزويجهن لغير أبناء عمومتهنَّ في القبيلة أو خارج القبيلة من قبائل أخرى، ألا فليعلم أولئك أنَّهم يحرمون بناتهم فطرة فطرهنَّ الله عليها وشرع لها الزواج، ويتبعه حرمانهنَّ من الأمومة كنتاج لها، وليتنبَّهوا أنَّ ذلك قد يدفع ببعضهنَّ لتحقيقها انحرافاً، أليس من نعم الله على أولئك أن رزقهم الله بناتهم؟! وأنَّ تربيتهنَّ والإحسان إليهنَّ نعمة توصلهم لجنَّته تعالى، فهل من شكره والإحسان لهنَّ عضلهنَّ طمعاً أو انتقاماً أو لعادة قبليَّة؟! بل إنَّهم والذين يسرقون مهورهنَّ قد فعلوا منكراً وإن لم تعترض البنت على ذلك خوفاً فإنَّ ذلك ممَّا يمنعه الشرع بل وتأباه المروءة، ثمَّ ليقارن أولئك بآباء في شعوب أخرى عربيَّة وإسلاميَّة ملزمون اجتماعيّاً بتجهيز بناتهم من أموالهم لتزويجهنَّ، أليس من نعم الله على الآباء أن يتقدَّم إليهم من سيتحمَّلون عنهم المسؤوليَّة لحماية بناتهم وإعالتهنَّ وللقيام باحتياجاتهنَّ وفوق ذلك لإعفافهنَّ والستر عليهنَّ وتحقيق فطرة الأمومة لهنَّ، لينجبن أحفاداً لهم ربَّما احتاجوهم في شيخوختهم فكانوا أقرب إليهم من أبنائهم، فإن لم يخَف أولئك الله في بناتهم ولم يُحسنوا إليهنَّ بدافع الأبوَّة والحنان وطلباً لمرضاته تعالى، فلينظروا لجانب العفاف والستر، ألا يخشون العار لوقوعهنَّ في الانحراف، إنَّ فعلهم هذا دافع لبعضهنَّ لذلك. إن حفزتني إحصائيَّة قضايا العضل فكتبتُ ما كتبتُه أعلاه، فقد استثارتني مقطوعة الأستاذ خالد الأنشاصي نهاية مقالته في العدد 267 من صحيفة «الشرق»، القائل فيها: حَبَاهُ اللهُ بالأُنْثَى فلا صلَّى ولا شَكَرَهْ ويصفو حين يَحْلبُها ويَتْرُكُ نفسَها عَكِرَهْ تُقَرْقِشُها عُنُوسَتُها ولا تُبقي سوى نَكِرَهْ أَفَحْلٌ أنتَ يا أبتِ ولم تُنْجِبْ سوى بَقَرَهْ؟ لأعلِّق بقولي: ما أجملك شاعراً استثرتَ مشاعري بما اختتمت به رسائلك العاجلة، فالشعر أسرع وصولاً إلى الأنفس ومشاعرها من النثر، فإليك أستاذي الشاعر مشاعري على لسان فتاة معضولة تخاطب أباها: بِبَوحِ الشِّعْرِ مُعْتَذِرَهْ سَأحْكِي الحَالَ مُخْتَصِرَهْ نَعَمْ أَبَتَاه لِي أَمَلٌ أَعِيْشُ بِطَيْفِه حَذِرَهْ تُحَدِّثُنِي بِه رُوحِي وَتَعْرِضُ مُهْجَتِي صُوَرَهْ نَعَمْ أَبَتَاه قَدْ كَبُرَتْ فَتَاتُكَ وَارتَوَتْ نَظِرَهْ وَفِي أَعْمَاقِهَا تُخْفِي شُجُونَ القَلْبِ مُسْتَتِرَهْ تَثُورُ أُنُوثَتِي شَوقاً وَتَهْدَاُ وَهْيَ مُنْكَسِرَهْ أَفِيْضُ أُمُومَةً حَتَّى أَرَاهَا فِي المُنَى نَكِرَهْ يَلُفُّ الصَّمْتُ إِحْسَاسِي وَيَمْسَحُ بالدُّجَى أَثَرَهْ فَتَاتُكَ يَا أَبِي تَخْشَى زَمَاناً تَشْتَكِي خَطَرَهْ لِمَاذَا أَنْتَ تَعْضِلُهَا لِتَبْقَى العُمْرَ مُنْتَظِرَهْ؟ تَعِيْشُ حَيَاتَهَا ظُلْماً حَيَاةَ عُنُوسَةٍ كَدِرَهْ كَفَى اسْتِثْمَارُهَا عِقْداً إلامَ تَظَلُّ مُحْتَكَرَهْ؟ أَمَا تَخْشَى تَضَرُّعَهَا بِلَيْلٍ لا تَرَى قَمَرَهْ؟ فَإِنَّ اللهَ يَسْمَعُهَا فَيُتْبِعُ سَمْعَه قَدَرَهْ فَمِي أَبَتَاه عَنْ قَلْبِي سَيَلْفِظُ مَا بِه أَمَرَهْ