بظهور الصنبور في مصر احتاج المصريون -كما يحتاجون عادة في كل شؤونهم- لفتوى تبيحه أو تحرمه، فقد كان الصنبور “بدعة” هذا العصر. كان يمكن للصنبور أن يمر في حياة المصريين دون حاجة لفتوى لولا أنهم وجدوا أنفسهم مضطرين لاستخدامه في “الوضوء” وفي “الطهارة”. تحول الصنبور إلى موضوع فقهي داخل أروقة الأزهر الشريف، والأزهر الشريف لمن لا يعرف كان المرجعية الفقهية للمسلمين كافة حتى تحول الفقه نفسه إلى ساحة صراع سياسي بين الدول التي انسلخت واحدة فواحدة من جسد الدولة العثمانية. في الأزهر الشريف بُحث الأمر من جوانبه كافة، واختُلف فيه. الحنبلية رأت في الصنبور بدعة صريحة، كما رأت عدم ملاءمته للوضوء والطهارة، فيما رأت الشافعية أن الأمر يحتاج لنظر طويل فلا هي أباحته ولا هي نهت عنه، فيما بادرت الحنيفية بإباحته، فليس كل جديد بدعة ولا كل بدعة ضلالة، لهذا تسمى الصنبور باسم الحنيفية نسبة للمدرسة الفقهية التي لم ترَ فيه ما يثير الريبة الدينية، ثم اختصر ل”الحنفية” الاسم الدارج للمدرسة الحنيفية في مصر. الصنبور في اللغة هي السعفة تخرج من جذع النخلة. وبما أن الحنفية الخارجة من جذع ماسورة الماء تشبه تلك السعفة سُمي الاختراع بهذا الاسم، لكن المصريين فضلوا تسميته بالحنفية ربما اختصاراً لقصة طلبهم الفتوى من الأزهر وإباحته من قبل المدرسة الفقهية الحنيفية، بدلاً من أن تحكى القصة في كل مرة كاملة، أو ربما احتفاءً بفكرة التجديد نفسها، كما لو كان لسان حالهم يقول إن الحنيفية تقف في صف التجديد. اليوم لا يذكر أحد هذه القصة، ولا يعرف علاقة الاسم بالمدرسة الفقهية التي تأسست في القرن الأول الهجري (السابع الميلادي) على يد الإمام أبي حنيفة في الكوفة، وهي المدرسة التي تسمى بمدرسة الرأي، لأن أبي حنيفة كانت له طريقته في استنباط الأحكام لا من ظاهر النصوص كما هو الشائع في المدارس الفقهية الأخرى كالحنبلية مثلاً، ولكن من الغوص في المعاني الخفية التي قد يعنيها النص أو يشير إليها. صحيح أنه لم يصل لمراتب المعتزلة في قراءة النصوص وفي استنباط الأحكام وفقاً للمجاز، لكنه في بعض الأحيان كان غوصه في المعاني يقربه من المدرسة المعتزلية، خصوصاً وأن الكوفة كانت تموج وقتها بالمجادلات الفقهية. لهذا يمكن القول إنه بين المذاهب الأربعة كان الأكثر استيعاباً للتجديد وللجديد، حتى أنه اشتهر بين تلك المدارس بما يسمى الفقه التقديري، فقد كان -رحمه الله- يفترض أشياء لم تحدث ثم يبحث فيها لاكتشاف حكمها حتى قبل أن تحدث. فضلاً عن ذلك فإنه الوحيد الذي لم يترك كتاباً موثقاً ككتاب “الرسالة” مثلاً للشافعي الذي بين فيه أصول مدرسته الفقهية. ليس هذا فحسب، بل إنه -أي أبا حنيفة- كانت له طريقة وجيهة في استنباط الأحكام، فقد كان يجمع تلاميذه ويطرح عليهم الأمر دون وصاية ثم يسمح لكل منهم أن يدلي بدلوه في الأمر ويكتفي بالتعليق أو التصحيح، حتى إذا ما وصلت المناقشة لرأي يستصوبه المجموع -لا هو وحده- يدخل الحكم في إطار المدرسة، فقد كان رحمه الله “طويل الصمت كثير العقل”. لهذا فإن تلامذته في مصر وفّقوا بين المدرسة الفقهية وبين طبيعة الحياة في مصر، عملاً بطريقة أستاذهم وشيخهم الجليل، الذي كان يقرأ النص في ضوء الواقع. تلامذة أبي حنيفة في مصر هم الذين أباحوا الصنبور، باعتباره الجديد الوافد على الحياة المصرية، ولم يروا فيه ما يضر بأمور الحياة ولا بأمور الدين. ولعل تلامذة الحنيفية هم أيضاً الذين أباحوا شرب “القهوة” أو مشروب البن كما كان يطلق عليه، في القرن العاشر الهجري، بعد تحريمها من فقهاء الجزيرة العربية وبعض فقهاء الحنابلة في الأزهر، فقد رأوا أن “المشروب” نفسه لا علاقة له بمجالس شربها التي كان يغلب عليها المجون والاختلاط، بل إن الفقهاء بالغوا فيما بعد في فوائد القهوة لدرجة أن قيل إنها “تعين على العبادة”! قضية الصراع بين فقه النص وفقه الواقع لا تنتهي من التاريخ، فهي فيما يبدو جدلية التاريخ البشري نفسه. الغريب أن فقه النص يضطر في النهاية للتسليم لفقه الواقع، ربما لأن الأخير يمضي في طريقه بوتيرة سريعة للغاية، ما يكشف أن أدوات العلوم الشرعية التقليدية لم تعد مناسبة لهذا الواقع، وعلى هذه العلوم أن تنفتح على تطورات علوم اللغة في السنوات الأخيرة وعلى الفلسفة وعلمي الاجتماع والنفس، وعلى إعادة النظر في التاريخ الإسلامي نفسه إذا ما رغبت في البقاء وسط عالم يتغير بجنون.