في المقال السابق عرجنا على أولى مشتركات العمل الوطني في مصر بعد الثورة، فيما أسميته «مركزية الإيمان». مرجعيتي في ذلك كافة الدراسات التي أجريت على حالة التدين في مصر والتي خرجت بنتائج مفادها أن الشعب المصري واحد من أكثر الشعوب تدينا، بمسلميه ومسيحييه، ومن ثم فقد رأيت أن أكثر ركائز العمل الوطني المشترك فاعلية سوف يكون في عدم تجاهل الدين إبان التخطيط للمستقبل السياسي، دون أن يعني ذلك تمايز أصحاب ديانة الأغلبية على أصحاب الديانات الأخرى، ودون أن يعني وضع الدين في أفق الدولة التضييق على المختلفين دينيا. ثاني هذه الركائز وأعني بها الحرية كانت أكثر الشعارات ترديدا في ميادين التحرير في مصر جنبا إلى جنب مع العدالة الاجتماعية. وفي ظني أن المصريين لن يمكنهم بعد يناير المقايضة على حريتهم مرة أخرى، فإذا كان النظام الناصري قد قايض المصريين على حريتهم في مقابل الخبز فإنهم أدركوا بعد انهيار المشروع الناصري في يونية 1967 أن المقايضة على الحرية في مقابل الخبز قد أفقدهم الحرية والخبز معا، وأن الضمانة الوحيدة للخبز كانت الحرية نفسها التي تخلوا عنها طواعية. المشكلة في الحرية ليست في كونها إحدى القضايا المختلف بشأنها بين التيارات السياسية التي قفزت للسطح السياسي، ففي ظني أنها إحدى المشتركات بين هذه التيارات، ولكن المشكلة في تفسير هذه التيارات والقوى السياسية لمفهوم الحرية وحدودها، خصوصا بين القوى السياسية التي تتخذ من الإسلام السياسي مرجعية لها، وبالأخص بين القوى التي تقدم نفسها باعتبارها ذات مرجعية «سلفية»، فعلى الرغم من أن الأخيرة قد طورت من نفسها وتقبلت العمل السياسي ضمن شروط الديمقراطية بعد عقود من الشك تجاه فكرة الديمقراطية وتجاه إجراءات الديمقراطية وتجاه الفكرة الدستورية الأصيلة التي تقول إن الشعب مصدر السلطات، على الرغم من هذا التطور الذي لا يمكن الاستهانة به فإنها ما زالت تتبنى وجهات نظر تضع سقفا منخفضا للغاية للحرية مما يطمح إليه كثير من المصريين. غير أن الحرية في ظني لن تكون أيضا إحدى المشتركات التي سوف تصنع خلافا بوضعها على طاولة النقاش، فمن ناحية فإن قوى الإسلام السياسي نفسها مختلفة فيما بينها في مفهومها للحرية، فما بين أحزاب إصلاحية كالوسط مثلا وبين جماعة الإخوان المسلمين وحزبها الحرية والعدالة وبين حزبي النور والفضيلة المنتميين للدعوة السلفية بعض ألوان الطيف، ففيما تتبنى الأحزاب الإصلاحية كالوسط المنهجية الوسطى المعتدلة للإسلام الأقرب إلى الأزهر ومدرسته الفقهية، تتبنى جماعة الإخوان المسلمين خليطا من أفكار الإمام حسن البنا والمنهجية القطبية (نسبة إلى الإمام سيد قطب) المتشددة نسبيا، فيما تتبنى أحزاب الدعوة السلفية رؤية أكثر تشددا. فضلا عن ذلك فإن الخلاف أساسا في تفسير الحرية المستند على مرجعية إسلامية بتصورات متعددة في رأيي سوف يكون دافعا للعربة إلى الأمام أكثر من كونه معطلا لمسيرة الثورة المنادية للحرية، لأن هذا الاختلاف في التصورات سوف يصنع مع الوقت ومع انفتاح أفق الحوار بين هذه القوى بعضها البعض من جانب وبينها وبين قوى المجتمع المدني من جانب آخر فائضا من التفاهمات يمكن أن يرمم الثقة المفتقدة بينها والتي صنعها النظام السابق عبر أجهزته الأمنية لتفتيت القوى الوطنية. هذا وعلى الجانب الآخر من النهر، ورغم تخوفات القوى ذات المرجعية الإسلامية من القوى الليبرالية واليسارية، فإن الأخيرة دللت في مواقف عديدة، وحتى في برامج أحزابها، على توافقات مدهشة مع قوى الإسلام السياسي فيما يخص مركزية الدين مثلا في الحياة المصرية، وفيما يخص أيضا التصورات المتعلقة بالحرية وبحدود الحرية، ذلك باستثناء طبعا الأحزاب الليبرالية واليسارية المتطرفة في علمانيتها، وهي قليلة، وأيضا الأحزاب الإسلامية المتشددة في تمسكها بالتفسيرات القديمة.وحتى ضمن إطار الاختلافات حول مفهوم الحرية وحدودها فهناك توافق مبدئي على عدم التراجع عن إطلاق الحرية السياسية في تكوين الأحزاب، وفي طرق التعبير عن الرأي على الأقل الرأي السياسي وفي ممارسة العمل السياسي، وفي الاختيار بين طرق الاحتجاج المكفولة دستوريا، وفي حق المعارضة في أن يكون لها صوت مسموع في الحياة السياسية، وفي تداول السلطة بين القوى وبعضها، وفي الاحتكام لصوت الشعب في اختيار ممثليه وحكامه. هذا التوافق المبدئي على صياغة حرية سياسية غير منقوصة في الحياة المصرية السنوات المقبلة سوف يكون الأرضية الحقيقية لصياغة الحريات الاجتماعية والثقافية والدينية، لأنه من البديهي، على الأقل بالنسبة لي، أن مفهوم الحرية نفسه لا يمكن حصره في السياسة فحسب دون أن يفيض على الاقتصاد والمجتمع، وبالأهم على العقل نفسه.