يبدو الربيع العربي وكأنه قد أحيا دور التيار الديني في السياسة العربية، ففي تونس تصدَّر حزب «حركة النهضة» سباق البرلمان، وحاز على أكثر من 40 في المئة من مقاعد الجمعية التأسيسية التى سوف تضع الدستور. وفي مصر، صارت «جماعة الإخوان المسلمين» في قلب العملية السياسية، يطلب الجميع ودها، بحسبانها القوة الأكثر تنظيماً في الشارع السياسي، والمتوقع أن يكون حزبها هو المرشح الأكثر تأهُّلاً للفوز في الانتخابات المقبلة. كما دخل التيار السلفي، الذي لطالما وقف على مسافة كبيرة من مفهوم السياسة نفسه، رافضاً التعاطي معه من حيث المبدأ، متواطئاً في التحالف مع النظام السابق لحقبة طويلة من الزمن، دخل الحلبةَ من باب حزبين أساسيين حتى الآن، مع احتمالات نشوء أحزاب أخرى، بل وحتى «الجماعة الإسلامية»، الأكثر رفضاً للسياسة وتكفيراً لنظام الحكم ونهجاً للعنف، دخلت هي الأخرى إلى الحلبة بعد أن أسست حزباً جديداً بالفعل. ولعل التحدي الكبير الذي يفرضه هذا التيار بأطيافه المختلفة يتعلق بمدى احترام مدنية الدولة وطابعها الديموقراطي الأصيل، القائم على مبدأ المواطَنة وإرادة الأمة وليس على العقيدة الدينية والحاكمية الإلهية، فبينما تبدو جماعة الإخوان هي الأقرب لطرح الدولة المدنية، وإن كان ثمة رتوش على تصورها له يجعلها تطالب بمرجعية إسلامية لهذه الدولة المدنية يتباين الاجتهاد حولها، فإن السلفيين والجهاديين يبدون أكثر بعداً عن طرح الدولة المدنية، وأكثر حرصاً وصراحة في المطالبة ب «دولة إسلامية» تقوم، ولو بعد وقت يتم فيه إعادة تربية الشعب، على تطبيق الحدود الأساسية التى تنص عليها الشريعة الإسلامية. في الجهة المقابلة لهذا التيار، تتكاتف جهود القوى التقدمية، الليبرالية واليسارية والقومية، في الدعوة إلى مدنية الدولة، وفي السعى إلى التوافق حول مبادئ حاكمة للدستور تؤكد مدنيتها، وتحمي مبدأ المواطَنة فيها، وتمنع أي انقلاب محتمل عليها في المستقبل. سيناريوات وهنا يمكن لنا أن نتصور ثلاثة سيناريوات مستقبلية لمستقبل الدولة الوطنية المتولدة من رحم الربيع العربي، من منظور علاقتها بالمرجعية الدينية الاسلامية، يقوم كل منها على أساس فهم مميز ومختلف لمبدأ أو حقيقة «شمولية الإسلام». السيناريو الأول هو الأكثر سوءاً والأقل ترجيحاً، ويتمثل في هيمنة مفهوم الدولة الدينية، الذي ترفعه التيارات السلفية والسلفية الجهادية. هذا التيار يفهم حقيقة شمولية الإسلام فهماً نصياً/ حرفياً، ويذهب إلى التشديد على بعدها السياسي، قائلاً بحاكمية الشريعة، وصولاً إلى الادعاء بأن الدولة أصل من أصولها، وهو الفهم الذي يفتح الباب واسعاً على الدولة الدينية، ويستعيد ما هو أقرب إلى المقولات المعروفة حول الحق الإلهي المقدس في حكم الشعوب، وإن مع تغاير يفرضه التباين بين مسار العقيدة في التاريخ العربي-الإسلامي، ومسار العقيدة المسيحية في التاريخ الأوروبي-الغربي. نتوقع هنا أن تكون حظوظ هذين التيارين -السلفي والجهادي- قليلةً في الفوز بثقة الجماهير الواسعة، وفي التأثير الجذري على خريطة البرلمان، ومن ثم فمن غير المتصور لهما تشكيل حكومات مستقلة في أي من بلدان الربيع العربي، خصوصاً في مصر وتونس. غير أن الأمر الغالب أن يساهما بحجم تمثيلهما المتوقع، في ائتلاف مع التيار الإسلامي العريض الملتف حول الإخوان المسلمين، خصوصاً في مصر. والمتصور هنا أن يَدفع التياران في اتجاهات منغلقة، وأنه طالما وُجدت قيود تَحُدّ من قدرتيهما على فرض توجهات منغلقة سياسياً، مثل التنكر للديموقراطية التى أتت بهما إلى الحكم وآلياتها، والتنكر لشرعية الصناديق التى أوصلتهما إلى البرلمان، وللسُّلَّم الذي تمكَّنَا من الصعود عليه إذا ما أرادا ركله بعيداً، فالمؤكد أن يَدفعا باتجاه انغلاق ثقافي، من قبيل فرض رقابة على السينما تنمو معها سينما الحجاب والنقاب على حساب السينما التقليدية التى عرفتها مصر لنحو القرن ومكنتها من صوغ نموذج سينمائى مميز بين سينما العالم، ونموذج ثقافي إنسانى منفتح وجذاب، أقله للعالم العربي، مثل الأرضية الحقيقية للدور الإقليمي المصري في النصف الثاني للقرن العشرين. وأيضاً محاولة ضبط أداء التلفزيون، سواء من ناحية شكل المذيعات وملابسهن، أو طبيعة الدراما التى يقدمها، وغير ذلك. كما يُتَصوَّر أن تطاول هذه المراجعة والنهج التقييدي حركة الكتب الصادرة في مصر، بل والآتية إليها من الخارج، كما يبدو أكيداً فرض قيود على حركة السياحة، إنْ على لباس السيّاح، أو على تداول الخمور ولحم الخنزير، أو على السلوكيات الشخصية على الشواطئ لتكون أكثر اتفاقاً مع ما يُتصور أنه التقاليد الإسلامية، ناهيك بالطبع بالموقف السلبي من التماثيل، التى يُبدُون تجاهها ضيقاً ويسعون إلى تغطيتها أحياناً، كما حدث في الإسكندرية لتمثال عروس البحر، وأحياناً أخرى إلى هدمها، كما حدث لأحد التماثيل في ميدان بالمنصورة، فضلاً عن موقفهم التقليدي السلبي من الاحتفاء بالآثار المصرية القديمة/ الفرعونية. وفي الأخير، يُتوقع أن يدفع هذا التيار، بصرف النظر عن قدرته على فرض تلك التوجهات، إلى قمع الحرية الشخصية لدى المصريين، عبر محاولة التحكم في عاداتهم اليومية، ولباسهم، خصوصاً لباس المرأة، إذ يُتوقع أن يتم الترويج للنقاب خصوصاً، والحجاب عموماً، وربما محاولة صوغ أنماط سلوكية تقوم على الفصل بين الجنسين في جُلِّ المدارس والجامعات، وربما المواصلات العامة. أما السناريو الثاني، وحظوظه أكبر كثيراً من سابقه، فيتمثل في سيادة التيار الليبرالي الداعي إلى الدولة المدنية. هذا التيار لا يتنكر لمبدأ أو حقيقة «شمولية الإسلام» التى نتفق عليها جميعاً كمسلمين، ولكنه يذهب إلى معنى مختلف لها، يجمع بين تكامله وإيجابيته، التكامل بمعنى قدرته على إنشاء صورة للحياة لا تنغرس أبداً في الأرض مترعة بالدنيوية، ولا تنزع دوماً إلى السماء تهويماً في المثالية، بل تنهض بمهمة التوفيق بينهما. والإيجابية بمعنى واقعيته في فهم الوجود البشري، ونزوعه إلى التأثير في حركة التاريخ بدلاً من الانسحاب منه أو الشعور بالعجز في مواجهته، على منوال الأديان المجردة. فمن هذان التكامل والإيجابية، يصير الإسلام بحقٍّ ديناً شاملاً، حيث الشمول هنا ضرورة وجودية وليس غاية سياسية. ومن ثم، يمكن الادعاء بأن شمولية الإسلام تعني مرجعية المنظومة القيمية الإلهية لوجودنا البشري كله، ولكنها لا تفرض شكلاً معيناً للسلطة السياسية، إذ لا يفترض وجود مجتمع مسلم قيام سلطة سياسية مائزة، ذات سمات قدسية متعالية على التاريخ، كما يدّعي التياران السلفي والجهادي، وهو ما نعارضه نحن، ضمن هذا التيار، بدليلين: نظري وتاريخي أولهما نظري، إذ يبقى الإنسان متديناً ولو عاش منفرداً، لأن الإيمان اعتقاد فردي، وطالما خلا الدين من الكهنوت يصبح قادراً على البقاء دون سلطة، وتلك فضيلة إسلامية. ولو أننا تصورنا مجتمعاً مثالياً يحكِّم الناس فيه ضمائرهم فقط، لن نكون بحاجة إلى سلطة، فالسلطة مطلوبة لتنظيم حركة المجتمع وفرض القانون، حتى لا تثور الفوضى، وليست مطلوبة للرقابة على ضمير المؤمن، أو فرض الإيمان على المنكرين. وقد عاشت أقليات دينية كثيرة محافِظةً على إيمانها تحت سيطرة سلطات مغايرة لها عقدياً. بل أكثر من ذلك، نجد أن أصحاب العقيدة غالباً ما يصبحون أكثر تمسكاً بها إذا تعرضوا للاضطهاد، والمسلمون أنفسهم في المرحلة المكية، قبل تكوين مجتمع/ دولة المدينة، لا يخرجون على هذه القاعدة. وثانيهما تاريخي، يتمثل في تعدد التطبيقات التى جسدت معنى «الدولة» في التجربة الإسلامية الباكرة، والتى لا يمكن اعتبار إحداها هي الصحيحة وتخطئة ما عداها، فقد جسدت دولة المدينة سياقاً تاريخياً جمع بين النبوة والحكم، وكان على رأسها رسول يستلهم الوحي، الذي يوجِّهه ويعاتبه بقدر ما كان يوجب على المؤمنين طاعتَه، وهذا بالطبع ما لا يتأتى لأي دولة أخرى، حيث انتهت هذه الدولة الفريدة بموت النبي، الذي لم يكن حاكماً بقدر ما كان رسولاً، وقاضياً. وبعد وفاته، لم تكن هناك تقاليد «شرعية» لاختيار خلفائه (الراشدين)، ولا تقاليد «دائمة» لانتقال السلطة إليهم، فتولى كل منهم في ظل ملابسات سياسية مغايرة لسابقه. وقد رأينا كيف بايع عمر أبا بكر في اجتماع السقيفة، وكيف اختار أبو بكر عمر، فبايعه المسلمون. وفي عصر الرجلين تبلورت صورة المثل الأعلى للحاكم في الإسلام، حول جملة من المبادئ يأتي على رأسها الشورى والزهد والعدل. هذا المثل الأعلى هو ما أخذ في التدهور نسبياً مع الخليفة الثالث عثمان بن عفان، فكانت الفتنة التى أودت به. ولما تولى الإمام علي وقعت الفتنة من معاوية، وتحولت الخلافة إلى ملك عضوض. ومع يزيد بن معاوية بات التحول كاملاً وعاصفاً نحو الملك الوراثي. وهنا يكمن الالتباس بين فقدان المثل الأعلى الإسلامي للحكم وبين فقدان ما يعتبره البعض «الدولة الإسلامية»، فما حدث في التاريخ ابتعاداً من تجارب الحكم الإيجابية والفعالة (الراشدة)، لم يكن تنازلاً عن نظرية الإسلام السياسية (الشرعية) بل تدهوراً في قدرة الحكام على تجسيد هذا المثل الأعلى، الذي يظل قائماً رغم ذلك، وعبر كل العصور، بانتظار من يجسده عبر كل وأيِّ جسد سياسى، فالمهم في الإسلام ليس شكل الدولة، فهو أمر تاريخي، بل المثل الأعلى الإسلامي المتجاوز للتاريخ والقادر دوماً على إلهامه. أما السيناريو الثالث، وحظوظه في السيادة ربما كانت هي الأكبر، فيتمثل في فوز جماعة الإخوان المسلمين بأكثرية برلمانية وإن لم يكن بالأغلبية التى تمكِّنها من حكم مصر بمفردها. وهنا يمكننا القول ان المنهج الذي ستسلكه جماعة الإخوان سوف يلعب الدور الحاسم والمرجح في حسم مستقبل النظام المصري، لأنها الكتلة المرجحة التى يمكن أن تميل يميناً ناحية التيارين السلفي والجهادي، لتصبغ البرلمان المقبل بروح يمينية محافظة تجعلنا أقرب إلى منطق الدولة الدينية، كما يمكنها في المقابل أن تميل يساراً ناحية التحالف مع القوى العلمانية الليبرالية واليسارية والقومية، والتى نتوقع فوزها بنحو 40 في المئة من مقاعد البرلمان، وهنا يصطبغ البرلمان بروح الاعتدال والتحرر، على نحو تقترب معه مصر من روح الدولة المدنية. صفقة سياسية وفي العموم، نتصور أن الإخوان في مصر من خلال حزبهم (العدالة والحرية)، سوف يقدمون صفقة سياسية للمجتمع المصري تقوم على المقايضة بين طرفين: أولهما قيادة فعالة للاقتصاد الوطني وإدارة رشيدة لمرافق الدولة تحل الكثير من مشكلات المواطنين اليومية، إذ تتوافر للجماعة رؤوس أموال كثيرة، ونخبة مميزة من رجال الأعمال الذين لم تتلوث أيديهم بفساد النظام السابق، والذين يكادون يشكلون نحو 50 في المئة من الطبقة العليا لنخبة رجال الأعمال المصريين حالياً. وهنا نتصور أنها سوف تنشط في محاربة الفقر، ونتوقع لها تحقيق نجاحات كبرى على هذا الصعيد. كما نتصور قيامها بإدارة مرافق الدولة على نحو أكثر رشادة في ما يتعلق بالخدمات العامة، وأن تقدم حلولاً أكثر فعالية لأزمات كالمواصلات، والنظافة، وغيرها. وثانيهما ديموقراطية إجرائية تمارس في العموم والظاهر، ولكن من دون جوهر ليبرالي، تقوم على تقييد النزعة الفردية، وتضييق هامش الحرية الثقافية الذي اعتاده المصريون. وبالطبع، سوف تتفاوت درجة التقييد في هذا السيناريو بالموقع الذي سوف تختاره جماعة الإخوان وحزبها، فإذا ما احتلت موقع الشريك الوطني في ائتلاف حاكم مع القوى الليبرالية أو بعضها، خصوصاً الوفد، الأعرق تاريخاً والأكثر تماسكاً وممارسة للديموقراطية الداخلية، فسوف يكون هامش التقييد محدوداً جداً، وعبر مسار تدريجي، ومساومات صعبة خشية تفكيك الائتلاف. أما إذا احتلت موقع القطب المهيمن في ائتلاف إسلامي مع الجهاديين والسلفيين، فالمؤكد ان حركة التقييد سوف تكون أسرع، وأن حدتها ستكون أعمق، لأن هذين التيارين سوف يحتلان موقع الصقور في الحركة نحو اليمين، فيما تتحول الجماعة وحزبها إلى حمائم، وهنا قد يطاول التقييد حركة السينما باتجاه ما يسميه البعض ب «السينما النظيفة» التى تخلو من أي إيحاءات جنسية أو اقتراب جسدي، وأن تنمو سينما الحجاب، إن لم يكن بضوابط قانونية فمن باب نفاق التيار السياسي السائد. ورغم ما قد يبديه الإخوان من حرص على حركة السياحة واحترام الآثار المصرية، فمن المتصور قبولهم لتوجه التيار السلفي نحو فرض نوع من القيود على لباس السياح، وعلى تداول الخمور، أو لحم الخنزير، أو على السلوكيات الشخصية على الشواطئ، لتكون أكثر اتفاقاً مع ما يتصور أنه التقاليد الإسلامية. ولصعوبة توقع السيناريوين الأول والثاني، نتصور وقوع السيناريو الثالث، لتعيش مصر مدى دورة برلمانية كاملة، على إيقاع تلك الصفقة السياسية التى ترسم جماعة الإخوان معالمها الأساسية (ديموقراطية من دون ليبرالية)، فإما أن يقبل بها المواطنون فيتكرر نجاح الإخوان في مصر ويعاد انتخابهم، وإما أن يرفضوها، وعندها يكون الإخوان أمام اختيار صعب: فإما الانصياع لديموقراطية كاملة تحترم النزعة الفردية والروح الليبرالية وتقوم على تكامل الحريات السياسية والاقتصادية والثقافية، وهو ما يفتح طريقاً لتلاقي الإسلام مع العصر، وإما المعاكسة والوقوف أمام التيار العام، فتضيع على الجماعة وعلى المرجعية الإسلامية فرصةٌ ربما لا يجود الزمان بمثلها في وقت قريب.