قبيل رمضان، قامت حرب شعواء بين المؤيدين والمعارضين لمسلسل عمر الذي عُرض على القنوات الفضائية، كان الجدل محتدماً حول جواز تمثيل الصحابة ابتداءً، ثم انتقل إلى أبعاد هذا التمثيل وما يترتب عليه من نتائج كما تصورها كل من الفريقين. الذي تابع هذا الصراع في الشبكات الاجتماعية يندهش من كمية الحشد الآيديولوجي الضخم والتزييف الذي حصل من الفريقين، فقد اجتهد كل منهما في إبراز ما يخدم أغراضه، حتى خرجت المواجهة عن الموضوعية والآداب الخلافية، سواءً قبل عرض المسلسل بتراشق التهم الدينية والتخوين والاتهام في المصداقية والتلميح بشراء الذمم وبيعها ونحو ذلك مما يسوء سماعه، أو حتى في فترة عرض المسلسل التي تزامنت مع وقت صلاة التراويح حيث تحولت تلك الفترة الفاضلة إلى وقت ذروة على تويتر، تشهد نشاطاً ملحوظاً من الطرفين: المؤيد والمعارض، كل منهما يسوق ملاحظاته بأسلوب يخدم أهدافه، وما أعجب اختلاف الأوصاف مع أن الموصوف واحد! فمثلاً تجد المؤيدين للمسلسل يتحدثون عن أهمية معرفة سيرة عمر وتربيته التي نشأ عليها، وكيف أن التمثيل الدرامي للقصص يخلق جواً تأثيرياً أبلغ من مجرد قراءتها في الكتب، وأن الجاذبية التي تكمن في مشاهدة قصة حياة رمز من رموز الإسلام على الشاشة باستعمال المؤثرات الصوتية والمرئية المبهرة، أعلى وأكبر من مجرد الاطلاع عليها في صفحات كتاب على ضوء نورٍ خافت قبيل النوم، بينما انحاز المعترضون على المسلسل إلى بيان خطورة المجازفة بإقحام رمز من رموز الإسلام إلى دائرة التمثيل بما يجعل سيرته عُرضة للتحريف والتبديل، وصورته قابلة للتشويه والتعطيل، ويُضعف قداسته في قلوب النشء ويربط بين رمزيته وبين وجه الشخص الذي يمثله في المسلسل ربطاً سلبياً قد تستدعيه ذاكرة النشء في أحوال أخرى لهذا الممثل، ثم نشأت عن هذه المواجهات أن تنادى أفراد كل فريق إلى النصرة، فالمؤيديون صاروا يُظهرون تحري وقت المسلسل وحماسهم “للاستفادة” منه، بينما أظهر المعارضون له نقمتهم على القناة المنتجة له، وأقاموا التظاهرات لمقاطعتها بل ومقاطعة المعلنين فيها، وتجاوز بعضهم إلى الدعاء على مالكي القناة والقائمين على التدقيق الشرعي في المسلسل. أما أثناء شهر رمضان فقد كان الأمر عجيباً، وإنني بصفتي شخصاً لم يتابع حلقةً واحدة من هذا المسلسل أصابني الذهول من كمية (عدم الإنصاف) التي يزخر بها وسط الشبكات الاجتماعية – الذي هو صورة مصغرة قريبة إلى حد كبير من الواقع المعايَش- فقد كنت أقرأ لأشخاص مؤيدين للمسلسل فأجد منهم مديحاً عجيباً وفوائد مستنبطة بشكل دقيق لم أعهده منهم، لقد تصاعدت منهم الإيمانيات واتعظوا بالسيرة العمرية وتأوّهوا على الماضي التليد وصارت أهواؤهم -حتى الليبراليون منهم- إسلاميّةً صريحة قُحَّة، بل مما أضحكني (تعجُّب) بعضهم و(ذهوله) من حُسن علاقة علي بن أبي طالب بعمر بن الخطاب، وبعضهم تعجّب من حسن علاقة أبي بكر بعمر رضي الله عنهما، مع أنه لم يُعهد عنهما خلافٌ حقيقي أصلاً ولا يُمثلان رموزاً لمذاهب متخالفة، فسبحان من أوجد كل هذه العبر والفرائد في هذا المسلسل العظيم الذي -يُشعرك حديثهم أنه- هو أفضل مسلسل في العالم ! وبالمقابل كنت أقرأ للمعترضين على المسلسل فشاهدت عجباً أيضاً، بعضهم يجلس كل ليلة لمتابعة الحلقات -التي أقسم على مقاطعتها- ليستقصي المخالفات الشرعية، وبعد أن ينتهي من (الاستمتاع) بمشاهدة الحلقة والإعجاب بما فيها (في نفسه)، يبدأ بسرد السلبيات على متابعيه متأوِّهاً على سيرة الفاروق التي (انتُقي) منها ما يوافق أهواء الليبراليين و(الليبروإسلاميين)، وينوح -كل ليلة- على فاروق هذه الأمة الذي لو شاهد ما صُنع به لامتطى الدِّرة -أقولها ساخراً- وعلا بها المنتجين والممثلين والمشاهدين، فيا للهول ! كم أساء هذا المسلسل الشنيع لرموز الإسلام، وياله من حَجَر أساس مشؤوم للوصول إلى هدم الشريعة وتقويض بنيان الدين المتين، والتذرع به لتحريف سيرة سيد المرسلين، إن هذا المسلسل لهو أخبث مسلسل في العالم ! -هكذا يُشعرك كلامهم-. لماذا نضطر إلى التضخيم والكذب والتهويل في كل خلافاتنا؟ لماذا تشغل المجتمع كاملاً قضية تافهة كهذه يكفي أن نُبدي فيها رأينا موافقةً أو رفضاً؟ لقد اكتسب المسلسل دعاية ضخمة وشاهده كثيرون ممن لم يعقد العزم على مشاهدته، تابعوه من باب العناد لا من باب الاهتمام، بينما امتنع آخرون عناداً أيضاً لما صارت المسألة حزبية وتيارية. ليتنا نرتقي بعقولنا وعقول متابعينا عن الاستغلال والاستغفال، حتى لا نحيد عن سيرة عمر بمحض إرادتنا.