ابتكر الأمن السوري تهمة جديدة بحق الناشطين خلال السنوات العشر المنصرمة، وهي تهمة نصير المجتمع المدني، وأكثر من ذلك؛ فأدنى نشاط يحتاج إلى سلسلة موافقات، على رأسها الموافقة الأمنية، حتى لو تعلق الأمر باتفاق بضع نسوة على تأسيس جمعية هدفها الوحيد تنظيف الحي الذي يقطنونه، أو حتى رخصة محل لبيع الفلافل. في هذه البيئة بالتحديد تشكلت خارج قانون السلطة الاستبدادية الأمنية مجموعة منظمات مدنية، قيل الكثير في نقدها، البعض من منطلق الحرص والتقويم، والبعض الآخر من منطلق التجني، عملنا وحاولنا ترسيخ إرث للحراك المدني في سورية، لكن انطلاق الثورة رتّب علينا مهاماً جديدة، هل نجحنا؟ أم فشلنا؟ أم لم يكن بالإمكان أفضل مما كان؟ في هذا الحوار مع رئيس المركز السوري للإعلام وحرية التعبير، الناشط مازن درويش، نحاول الإجابة على هذه الأسئلة. – كيف تقيم نشاط المركز خلال الثورة السورية؟ - مع بداية الثورة، أصبح الإطار النظري نوعاً من الترف؛ فالناس يعانون عنفاً رهيباً وتعسفاً وقتلاً واعتقالات وانتهاكات فظيعة، وتركز عملنا على قضيتين؛ الأولى إفساح مجال للناس للتعبير عن آرائهم في ظل التعتيم الإعلامي، والثانية تتعلق بعمليات الاعتقال، ورصد الانتهاكات التي تحصل وتوثيقها. - هل استطعتم تشكيل أدوات رقابية تساعدكم في تحقيق أهدافكم؟ - استطعنا في حدود معينة، مثلاً استطعنا إصدار تقرير عن الصحافيين والمدونين الذين اعتقلوا خلال تسعة أشهر من عمر الثورة، استطعنا رصد عمليات توزيع ومنع توزيع المطبوعات في سورية، رصدنا عملية مراقبة الإنترنت وحجب المواقع، وعمليات اصطياد الناشطين من خلال الإنترنت، إضافة لعملنا على التوثيق بشكل عام، وأيضاً رصدنا الانتهاكات الحاصلة ضد المتظاهرين السلميين والاعتقالات وعمليات القتل. – وجهت السلطة لكم اتهامات بأنكم عملاء للخارج؟ - هذه الاتهامات ليست مرتبطة بالدرجة الأولى بنشاطنا بقدر ما هي مرتبطة بموقفنا من انتهاكات تمارسها السلطة، في بداية الأحداث استخدمت السلطة كليشة المندسين والمتآمرين وعملاء لجهات أجنبية، وكل متظاهر يأخذ ألفي ليرة للتظاهر، ومؤسسات إعلامية كاذبة ومضللة، ومجسمات تجهز في دول أخرى على أنها مظاهرات في سورية، المشكلة منذ البداية هي في عملية الإنكار، نحن نعيش الواقع قبل الثورة، ما حدث في سورية أن هذه المنظومة السياسية بدل أن تحاول التكيف والإسراع بإعادة صياغة الدولة السورية بما يلائم العصر ويحترم حرية المواطن السوري وكرامته، ذهبت باتجاه إنكار ما هو قائم، وأيضاً باتجاه تخوين المواطنين السوريين، أنا كنت مع المعتصمين أمام وزارة الداخلية 16 مارس، وكنا نطالب بإطلاق سراح المعتقلين، في اليوم التالي كتبت جريدة “الوطن السورية” أن عدداً من الأهالي كانوا يراجعون وزارة الداخلية، ووجد بينهم بعض المندسين، منهم رياض سيف ومازن درويش وغيرهما، إذاً هؤلاء مندسون، ولا علاقة لهم بقضية الاعتقال السياسي، ولا بما يحدث في سورية، ولا بالحريات المدنية، نحن مندسون وطارئون على الساحة السياسية، تخيل أن تكون مواطناً سورياً مندساً في وطنك، وعلى هذا الأساس دخلت إلى “الفيسبوك” وأنشأت مجموعة اسمها أنا مندس، أعلنت فيها أنني مندس بقضايا وطني الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. على أي حال، منذ زمن طويل تعدّ السلطات السورية أي شخص له وجهة نظر مختلفة عنه إما عميلاً أو خائناً أو مندساً. - بثت قناة الدنيا أشياء تتعلق بك شخصياً. - قناة الدنيا نشرت عن الكثيرين، نشرت أنني راسب في الثانوية العامة، ومتزوج من يهودية فرنسية، وفيما بعد هم أنفسهم تحدثوا أنني معارض وطني وشخصية وطنية عندما عارضت تسلح الثورة والتدخل الخارجي. – لماذا لا تعدّ ما يقوله الإعلام السوري يندرج تحت حرية الرأي والتعبير؟ - نحن – كمركز – أدنّا الانتهاكات التي تقع على الصحفيين المعارضين، وأيضاً الانتهاكات التي وقعت على صحفيي السلطة، نحن نتعاطى -بشكل مهني- المشكلة الأساسية مع الإعلام الحكومي، أنه من المفترض أن يكون إعلام الدولة السورية وليس إعلام النظام الحاكم أو السلطة، كان يجب أن يكون مستقلاً يظهر وجهات النظر والحقيقة والاختلاف، ومع الأسف، الأجهزة الإعلامية اصطفت مع النظام وأخذت رأيه وروجت لروايته، وخوّنت الآخرين. - يعني ما يقوم به يدخل في إطار تحريف وتشويه الوقائع. - إذا كان من المهنيّة أن نسلم بما قالت به مديرة إحدى القنوات السورية، ريم حداد، أن اللاجئين السوريين في تركيا يقومون بزيارة أقاربهم، فنحن غير مهنيين، إذا كانت المهنية تقتضي القول بأنه لا يحدث شيء في سورية، وأن هذا كله فبركات إعلامية، فنحن غير مهنيين، وإذا كانت المهنيّة تقتضي القول بأن أجهزة الأمن لم تستخدم العنف والرصاص الحي ضد المتظاهرين فنحن غير مهنيين. - هل أصدرتم أي تقييم للإعلام السوري بعد بداية الثورة؟. - أصدرنا تقريراً في مايو، بعد مرور شهرين على بداية الثورة، أسمينا فيه الإعلام بأنه إعلام ضد المواطنين، وجاءت تسمية إعلام ضد المواطن لتوصيف حالة هذا الإعلام، مرة أخرى أقول “إن هذا الإعلام أدخل نفسه كطرف، ولم يعد ممكناً إلا أن يكون طرفاً، لم يقم بدوره المطلوب، لا بالمعنى المهني ولا الوطني، ولم أكن أتخيل كمواطن سوري يراقبه أن أسمع في يوم من الأيام على تلفزيون وطني طلبات بسحق المتظاهرين وقتلهم، وما حصل في الإعلام خلال الثورة أعقد من مسألة مهنيّة”. - هل وثَّقتم هذه الحالات؟ - وثّقنا حالات نوعية تعبر عن هذه الممارسات. - قالت السلطة إنها ستقوم بمجموعة إصلاحات قانون إعلام وأحزاب، وتعديل دستور، لكنها تقول إنها بحاجة للوقت. - إذا عدنا إلى قانون الإعلام عام 2001، وكان اسمه قانون المطبوعات، نجد أن مشكلته هي في سيطرة الدولة على الإعلام، من خلال التحكم بالترخيص والتوزيع والإعلانات والإجراءات الإدارية، ومحاربة الحصول على المعلومة، ولننتظر لنرى كيف يتعامل القانون الجديد مع هذه المشكلات. – أنت كنت طرفاً في مناقشة القانون الجديد. - غير صحيح، لم أكن عضواً في اللجنة، وفقط طُلبت استشارتي مرة واحدة في في قضية التراخيص وقضية المجلس الأعلى للإعلام، ولم أحضر كل الاجتماعات، انظر كيف تعامل القانون الجديد مع قضية تحرير الإعلام من سيطرة الدولة، النقطة الأساسية هي مشكلة الترخيص المتعلق بالسلطة السياسية، فمن ترضى عنه السلطة تمنحه ترخيصاً، هذه الإصلاحات والقوانين التي صدرت لم تقنع أحداً. - على مستوى حرية الصحافيين، هل كان القانون الجديد متطوراً؟ - مسألة الترخيص هي الجوهرية، وأساس حرية الإعلام وديمقراطيته، في القضايا الأخرى هناك كلام جميل عن الصحافة، وحرية الصحافي وحقه في الحصول على المعلومة، لكن على الأرض لم يتغير شيء، لاتزال محظورات النشر هي نفسها صورة طبق الأصل عن القانون القديم، الغرامات المالية زادت أضعافاً، يمنع حبس الصحافي بموجب القانون الجديد، لكن يجوز محاكمته بموجب قانون العقوبات العام، وفي هذا الأخير ثمة مواد تعاقب على نشر ما يعدّ مسيئاً للدولة، وهذا يتناقض مع قانون الإعلام الجديد؛ حيث يمكنهم حبس الصحافي على أساس قانون العقوبات العام، وفي الوقت نفسه تغريمه بمبالغ ضخمة على أساس قانون الإعلام الجديد، فمثلاً نشر أنباء كاذبة ونشر أنباء تؤدي إلى وهن نفسية الأمة، ونشر أنباء تؤدي إلى إضعاف الشعور القومي، هذه كلها مواد قانونية تعدّ جنايات، ولاتزال سيفاً مسلطاً على الصحافي. - هل ناقشتم مسألة تناقض القوانين مع المبادئ العامة للدستور؟ - المشكلة في سورية أعقد من مسألة تعديل أو تطوير قانون، المشكلة أن هناك بنية ومؤسسات دولة غير قابلة للاستمرار، والحياة وأصبحت خارج التاريخ، وهذه البنية تُنتج الأزمات والمآزق، إذاً يجب تغيير بنية الدولة، بدءًا من العقد الاجتماعي إلى الدستور إلى فصل السلطات إلى الحريات، هناك مواد في الدستور تتحدث عن حرية المواطن في التنقل، لكن عشرات الآلاف من السوريين ممنوعون من السفر دون أي موجب أو قرار قضائي أو قانوني، فقط بقرارات أمنية، الدولة مبنية على مطلق الصلاحيات الأمنية. - ما موقف المركز من مسألة المطالبة بحماية المدنيين؟ - المركز مع كل الأدوات الدولية لحماية المدنيين، أولاً مع فتح البلاد أمام الصحافة الأجنبية والمستقلة، القريبة من النظام والبعيدة عنه، مع وجود مراقبين دوليين، مع دخول كل المنظمات العربية والدولية لمراقبة الأوضاع. - كيف السبيل لحماية التظاهر السلمي في حال استمر تعنت السلطة؟ - قبل بداية الثورة السورية كان كثيرون يتخوفون من الوصول إلى حالة انفجار، ويبدو أن السلطة كانت تراهن على أن المواطن عديم الإحساس، مفتاح الحل ومفتاح التفجير بيد السلطات السورية، إذا استمرت في خيارها الأمني فنحن أمام كارثة، وإذا قبلت واعترفت بحقوق المواطن، ووافقت على مبدأ تداول السلطة سيكون هناك كلام آخر، هذا الأمر منوط بالسلطة، قد تقود البلاد إلى كارثة أو إلى تدخل عسكري أو إلى حرب أهلية، والاحتمالات مفتوحة، أعتقد أنه يجب توجيه هذا السؤال إلى السلطات السورية. - ما رأيك في طلب الحماية الدولية؟ - هذه المطالب هي رد فعل وليست فعل، السوريون لم يخرجوا في البداية للمطالبة بحماية دولية، لكنهم طالبوا بها عندما استبيحت حياتهم وحقوقهم. – أعلنت السلطة عن بدء حوار، وعقدت مؤتمراً تشاورياً، هل دعيتم إليه؟ - لم نُدعَ كمركز ولا بشكل شخصي، وأعلنتُ أنني لن أشارك في المؤتمر إذا دعيت إليه. - لماذا؟ - فكرة الحوار من أجل الحوار فيها استخفاف بعقول الناس. - أليس هذا حكماً مسبقاً؟ - أبداً، إنه حكم مبني على وقائع مادية ملموسة، الحوار كان اسمه أساساً “لقاء تشاوري”، هو حوار للتشاور وليس لإنتاج شيء، هو لجنة من أجل لجنة، في عز الأزمة السورية تخرج علينا السلطة بلقاء تشاوري، لكن يفترض أن تكون له أرضية كي ينجح، وقف العنف، وقف القتل، إطلاق سراح المعتقلين، القبول بوجود أزمة، القبول بوجود تظاهرات ومتظاهرين ومطالب مشروعة، لكن لم يحدث شيء من ذلك، بل استمر العنف والقتل والاعتقالات التعسفية والاختفاء القسري، إذاً، هو ليس حكماً مسبقاً، إنما مبني على وقائع مادية، وها قد عُقد المؤتمر منذ أشهر ولم يخرج بنتيجة. - هل دُعيتَ لتكون عضواً في المجلس الوطني؟ - دُعيت واعتذرت، ودُعيتُ لأكثر من كيان سياسي واعتذرت؛ السبب أنني لا أصلح للعمل الحزبي والسياسي بالمعنى الشخصي، ولأنني أرى موقعي كشخص حقوقي ومستقل أفضل وأنفع بالمعنى العام. - إلى أين تسير سورية في رأيك؟ - سورية في مخاض، وأظن أن النظام سقط بالمعنى السياسي والأخلاقي والوطني، والمخاض السوري هو فاتورة هذا السقوط، لم يعد بالإمكان العودة إلى ما قبل 15 مارس، ولم يعد ممكناً التغاضي عن التسعة أشهر الماضية، ولم يعد ممكناً العودة إلى الدولة الأمنية والحزب القائد، سورية ذاهبة إلى إقامة دولة مدنية ديمقراطية، وأتمنى للوصول للهدف أن تكون الخسائر والتكاليف قليلة، التي تتحمل مسؤوليتها السلطة، سورية ذاهبة لإنهاء عقود طويلة من الاستبداد والديكتاتورية، والانتقال إلى دولة مدنية ديمقراطية، تحترم المواطنة وكرامة الإنسان.