تحتفل التونسيات هذه الأيام بذكرى صدور مجلة الأحوال الشخصية. هذه المجلة التي طالما أثارت نقاشات حادة بين المحافظين الذين يعتبرونها وثيقة غربية مستوردة ومتعارضة مع النصوص الإسلامية، وبين المتمسكين بحقوق المرأة الذين يعتبرونها غير متعارضة مع الإسلام. في هذه المناسبة عاد الجدل في تونس من جديد حول مسألة حقوق النساء، وذلك بمناسبة الخلاف الذي كشفت عنه لجنة الحقوق والحريات التابعة للمجلس الوطني التأسيسي المكلف بصياغة الدستور. والخلاف حصل حول مسألة المساواة بين الجنسين. ويعود سببه إلى الاقتراح الذي تقدمت به حركة النهضة والذي تمثل في الصيغة التالية « حماية حقوق المرأة ودعم مكاسبها باعتبارها شريكا حقيقيا للرجل في بناء الوطن ويتكامل دورهما داخل الأسرة «. ومما زاد من المخاوف وإثارة الشكوك هو رفض أصحاب وصاحبات هذه الصيغة إضافة كلمة المساواة داخل النص المقترح، مما عمق الالتباس وولد التعارض بين مفهومي التكامل والمساواة. وبالرجوع إلى أدبيات الحركات الإسلامية والخطاب الحركي عموما، نجد أن مبدأ المساواة بين الجنسين كان دائما أو في الغالب مثار شبهة وتوجس. ولم يتردد الكثيرون من منظري هذا الخطاب في رفض المصطلح، والتأكيد على أنه يحمل مضمونا غربيا يتعارض مع ما يعتبرونه « المفهوم الإسلامي «. وقد سبق لهم أن بحثوا عن مصطلحات بديلة، حيث اقترحوا على سبيل المثال مصطلحي العدل أو التكامل بديلا عن المساواة. الأكيد أن وراء هذا الاضطراب اللغوي والمفاهيمي قراءة لم تقطع بعد مع المفهوم المحافظ للنصوص الإسلامية التأسيسية، وهو مفهوم رسخته كتب التفسير والفقه، بشكل جعلت من المرأة المسلمة كائنا له شخصيته المستقلة نظريا لكنها في معظم الأحوال تبقى تابعة للرجل وخاضعة له سواء أكانت بنتا أم زوجة أو حتى أما. في حين أن مقاصد الشريعة القائمة على عديد النصوص القطعية تكشف لكل متحرر من العقلية الذكورية أن الإسلام، وإن اتبع حالة من التدرج في أحكامه التي توحي بالتفاوت في الحقوق إلا أنه في العمق يهدف إلى الارتقاء بالعلاقة بين الجنسين إلى درجة المساواة في الحقوق والواجبات. المشكلة الثانية التي يعاني منها أصحاب هذه القراءة المحافظة تكمن في اعتقادهم بأن المساواة تعني التماثل بين المرأة والرجل. وهو أمر غير بديهي كما يتصورون، لأنه حتى المجموعات النسوية الأكثر راديكالية نراها تعمل جاهدة لإثبات أن للمرأة خصوصيات لابد من احترامها وأخذها بعين الاعتبار عند وضع التشريعات والسياسات. التباين الرئيسي بين التكامل والمساواة يكمن في أن المصطلح الأول الذي اختاره أغلب أعضاء اللجنة ينطوي على مفهوم وظيفي يتعلق بضبط الأدوار بين المرأة والرجل داخل الأسرة أو حتى خارجها بالنسبة لكثير من الإسلاميين، في حين أن مصطلح المساواة له مضمون حقوقي يحيل مباشرة إلى المنظومة القانونية التي لا تلغي بالضرورة فكرة الأدوار، وإنما تبعدها عن مظاهر التمييز القائمة على الجنس. وبالرجوع إلى الصيغة المقترحة من قبل الأغلبية البسيطة داخل اللجنة يلاحظ أيضا أن التكامل في الأدوار مرتبط أساسا بفضاء الأسرة. وهو في الحقيقة إعادة إنتاج للصورة النمطية للمرأة. فما هو دور المرأة الذي يختلف عن دور الرجل داخل العائلة باستثناء الولادة والرضاعة؟. هل في ذلك إحالة إلى تربية الأبناء ؟ أو الاهتمام بالبيت ؟ أو الإنفاق ؟ أو إدارة شؤون الأسرة ؟ ، وهي جميعها مهام مطروحة على الأزواج مثلما هي مطروحة على الزوجات. لأن الإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها تحمل في طياتها الفروق الأساسية بين المفهومين التقليدي والحديث لمكانة المرأة في الأسرة والمجتمع. إن الخطاب الذي تردد في الفترة الأخيرة يختلف كليا عما ورد في وثائق مبادرة 18 أكتوبر التي كانت حركة النهضة شريكا فاعلا فيها. وهي المبادرة التي جمعت إسلاميين وعلمانيين. كما أن هذا المقترح قد يفتح الباب أمام احتمال المساس بمجلة الأحوال الشخصية سواء بصفة جزئية أو كلية، خلافا لتعهدات جميع الأطراف بما في ذلك حركة النهضة بحماية المكاسب التي تضمنتها هذه المجلة. وهذا الأمر هو الذي دفع بالأستاذ راشد الغنوشي إلى الرد على اعتراضات القوى السياسية والمجتمع المدني في محاولة منه للتدارك حين أكد على أن « المساواة اتفق عليها التونسيون منذ عشرات السنين «، وأن حركته لم تتراجع عن المساواة بين المرأة والرجل باعتبارهما متكاملين في الحقوق والواجبات «. لكن هذا التوضيح على أهميته لا يكفي وحده لتجنب كل ما من شأنه أن يعمق التناقض بين المفاهيم الأساسية التي ضمنتها المواثيق الدولية لحقوق الإنسان، وكان دستور 59 سباقا في التنصيص عليها. فالتونسيون ينتظرون من ممثليهم في المجلس الوطني التأسيسي أن يصوغوا دستورا أكثر ارتقاء وحماية للحقوق، وأن يتجنبوا الصيغ الفضفاضة أو الملتبسة التي تفتح المجال للانتقاص من المكاسب والتراجع عنها، ولا يكون ذلك إلا بالتنصيص بوضوح وبقوة على مبدأ المساواة. ما يجب أن يدركه أعضاء المجلس التأسيسي أنهم يكتبون دستورا وليس نصا أدبيا أو بيانا سياسيا.