كنت أقف على مرمى يدي، هكذا.. شخص آخر انسحب مني، ووقف مقابلي، يخزرني بعينيه الحمراوين قليلا، ربما من أرق البارحة، ربما من الغضب، ربما من تعب الإقامة معي سنوات وسنوات، دون أن يحظى سوى بالخيبة، من مخالطة روحي، ومشاركتها العبث بأحوالي وأحوال العالم». عن هذا الآخر/ الداخلي، عن أحواله وتجاربه، عن خيباته وخذلانه، ذاكرته أو توهمه، وجوده أو عدمه، لمسة واحدة تمس الاثنين معا، فتلمس الشعر والنثر والرسم والصور المتحركة والأصدقاء التي تتشكل فيها سيرة الكاتب والشاعر السوري زهير غانم في مشتبه سيرته الذاتية «تدوين النسيان» الصادر أخيرا عن دار الدوسري للثقافة والإبداع في البحرين. يقول غانم من ذاكرته الأولى: «كانت ياسمين أمي، أرملة بيضاء.. رفضت مشاركتنا الحياة، وذهبت بحياتها وقفا لنا، وكنا أبناء ستة، شياطين في دوح ودوامات ورياح، وكانت أختي حياة، وسوى ذلك لا أحد يعرف كيف نشأنا في اليتم والحزن والعنف». ليعيش معه حتى آخر يوم في عمره، ويسلم ذاكرته بيد التاريخ، بعد أن غادر حياته قبل صدور كتابه بيوم واحد، في مفارقة تضع مشتبه سيرته الذاتية تدوينا للحياة والنسيان في آن معا، كالقرين الذي يتحدث عنه، حين يدون الأول يشطب الآخر، ليعيد سرد الذاكرة بجرح اللغة. في هذا الكتاب الذي تركه زهير غانم وراءه كشاهد، على الحياة والموت، يذهب في تفاصيل ذاكرته الأولى، عشق اللغة وختمة القرآن، عن الحب الأول والمنديل المعطر الذي أسقطته فتاة من شرفتها في القرية حتى.. «اكتب وصيتك، ودع امرأة تقرأ في قلبك، أو تشعر، دع امرأة تطالع جبينك وفنجانك، وتضرب لك الودع والرمل، ودع امرأة فنانة تحياك وتحياها، (…)، دع امرأة تقولك، تفصح فيك عن ذاتك وعن حلمك وحبك، وكابوسك ولغتك وشعرك، الأهم من ذلك دعها تنضد لك النثر..» هذا الكتاب الذي يتشبه ويتمسح بسيرة ذاتية، يبتعد عنها إلى الوجع الداخلي لما خلفته ظلالها في العمق كلما حاول أن يلمس تفصيلة فارقة في حياته، ربما هي اللغة، أو السيرة الشعرية فيما بين نصوص قديمة وجديدة تتعلق بأذيال الذاكرة والحلم، أو شغف الشعراء بالجملة النثرية والمبنى الروائي.. فأنت بحاجة أن تقرأ صفحات من أفكار متداخلة تسحبك في تداعياتها قبل أن تصل لصورة في الذاكرة تلمس صورة الطفل الذي كانه، وما يلبث أن ينفلت منه: «وحين غادرنا الكتّاب إلى المدرسة، ذهبت مع أصدقائي إلى صفوف متقدمة، أكثر، لأننا ختمنا معلومات أكثر في الكتّاب، لكن العام الأول رفضنا، فلجأت مع اثنين من أصدقائي، أحدهما مات قتلاً، والآخر منذ عشر سنين ونيف في السجن، إلى كسر زجاج المدرسة الرسمية حتى زمن الوحدة، كنا في الصف الرابع الابتدائي، وحافظنا على بعض التفوق، ورأينا عبدالناصر يزور اللاذقية، ويخطب في ساحة الشيخ ضاهر فوق مقهى الحكيم، في جموع غفيرة من البشر، كما رأيناه على شرفة نادي الضباط في اللاذقية أيضاً، وكان ذلك من أحداثنا التاريخية التي لا تنسى». ولأنه مشتبه سيرة، كما يضيف زهير غانم العنوان الفرعي، يظل الشخص الواقف على مرمى يده، يحثه على التذكر والنسيان، وربما هو الشخصية المساندة كي تكتمل فصول هذه الرواية/ الغواية، نزوة الشاعر الملحة في كتابة الداخل الذي لم تستطع قصائده المدونة أن تقوله مباشرة، رغم أنها تشي به (يفترض)، فلا حاجة للهامش المنسي، إلا بقدر ما يوقف شبحه/ آخره على مرمى يده ويقول له بكل هذه الصراحة والمكاشفة (أو الاستجداء الأخير): «يا أيها الشاسع الضيق، يا أيها الذي كنته، وقد غادر كينونتي، هل يمكن لنا أن نحلم سوية، أم أن الأمر بنظرك غير مجد؟ وسيان حلمنا أم سقطنا في عتماتنا الداخلية». في كل هذه التداعيات؛ البورتريه الذي يمكن رسمه لصورة الشاعر في سيرته بورتريه داخلي، ذاكرة تنوح، و»تشخب بدم الفوضى»، تفتش عن مدينته فلا تجدها، هو أيضا لا يجدها، أو ربما لا يريد، ليس في هذه الكتابة على الأقل، هنا النص يبحث في التفاصيل الحسية، ظلال الأكرة الكثيرة حين تدور حول ضوء، تختبئ منه بالقدر الذي تريد أن تنكشف له وتدهن شعرها المستعار بضفائره. فما أن تأخذه صورة حتى يعود منها بصوت الداخل، منزويا بكرسي قصي عن مشهد الصورة إلى ذاكرة سابقة لا تشبه الذاكرة. ولربما بدأت صورا واضحة في الفصول السبعة الأخيرة من أصل 24 فصلا ضمها كتاب يدون النسيان، ويتشبه بسيرة ذاتية، ما أن يضع يده عليها حتى يتوقف عن القول ويختفي الواقف على مرمى يد، بعينيه الحمراوين وضحكته المجلجلة وهو يدير ظهره، باحثا عن شاعر آخر.. وفريسة جديدة!.