بعض النصوص الأدبية يردع القارئ عن تصنيفه، جرّاء كتابة مبدعة، تمحو الفروق بين الشعر والنثر، وبين الحكاية وتأمل أحوال العالم، وبين السيرة الذاتية ومراتب الوجود. ومن هذه النصوص، وهي قليلة دائماً، نص عبده وازن، الذي حمل عنوان «قلب مفتوح». (الدار العربية للعلوم – بيروت ومنشورات الاختلاف – الجزائر). كتب عبده وازن عن تجربة ذاتية، أسلم فيها قلبه المريض إلى مهارة الأطباء وإرادة الصدفة، فدخل إلى غرفة بيضاء ونام طويلاً، كما اعتقد، وخرج من الغرفة البيضاء إلى غرفة بيضاء أخرى، وقد حظي بروح جديدة، تتأمل الفرق بين النوم واليقظة، وبين ندوب الجسد وندوب الروح. ذلك أن تجربة الموت تستدعي تجارب الحياة، وتجربة الخوف المنفتح على الموت تستدعي أطياف الولادة الأولى. إنها تجربة الرحيل والعودة التي تعبّر عنها الأطياف والصور، فبعد سطوة البياض يستيقظ غبش الذاكرة. نص لا صفة له، يظنه القارئ، للوهلة الأولى، شعراً، بسبب صفة لازمت كاتبه. وبعد أن يدخل إليه يواجه «أنا واسعة»، مشغولة بتفاصيل التفاصيل فيحسبه رواية. لا يتلكأ النص في إرضاء «الناقد الروائي»، إن اطمئن إلى ما يطمئن إليه عادة. فهناك مصدر الكلام المهيمن، الذي يأتي بكلام يميزه من غيره، اجتهد الكاتب في صوغه اجتهاداً حميداً، وهناك انثيال الزمن، الذي يتقطّر قطرة قطرة، راصداً شكل النافذة ورحيل الغيوم وحركة الممرضات الهامسات، وانسياب الرؤى، التي يحاصر بعضها بعضاً وتسقط في التلاشي. وهناك العالم الداخلي للإنسان، فذلك الذي جازف بقلبه وربحه، يتخفّف من أوجاعه ويتأملها، محولاً قلبه إلى قلب إنساني كبير، يعرض شجون الإنسان كلها. عندها يطمئن «الناقد» إلى فرضيته، ويقتنع أنه أمام عمل روائي، يلبي ما طلبه منه، من دون تقتير. بيد أن القارئ لا يلبث أن يضطرب، من دون أن يضطرب كثيراً، لأنه وقع في النص على سيرة ذاتية مكشوفة الملامح محددة المراجع، واضحة المكان والزمان، وواضحة في لغة من حنان وحنين ترسم صورة أب عصامي رحل منذ زمن طويل، وصورة أم اعتقد الولد، الذي كان، أنها ولدت أماً وتموت أماً، ولا تحتمل صفة «الأنثى». يتقدم النص الجميل، آنئذ، وقد حمل صفة «السيرة الذاتية»، التي تسير بانضباط من بداية إلى نهاية. لكن القارئ يلاحظ، سريعاً أن النص ملتبس البداية والنهاية، وأنه محمول على انفلات ذاكرة شجيّة حرة، تتذكّر ما يحرّضها المكان الأبيض على تذكّره، وتمشي في شقوق الزمان، مصافحة أختاً رحلت وأصدقاء ابتعدوا ومستذكرة، برعب شديد، حرباً مدمرة، أو مستعيدة، برضا ساخن، قوام امرأة أفريقية، نقلت الكاتب من طور «البراءة» إلى طور الرجولة. لكن عبده وازن، أو نص عبده وازن، يعود وما يمحو ما صرّح به ويحتفظ به في آن، يحتفظ به مساوقاًً، في رحلة طويلة، أقدار إنسان وأحواله، معلناً عن قران الزمن الهارب والذاكرة «المتشقّقة»، التي تعطف ما ترى على ما رأته، أو تهبط عليها أطياف وتتبادل معها النظرات. مع ذلك ، فإن نص وازن، المتسامح الحنون، يخبر شيئاً فشيئأ عن أمرين: إنه سيرة الإبداع في شكل سيرة ذاتية، وإنه سيرة أحوال الروح، قبل أن يكون سيرة عن أحوال البشر. نص يحتقب سيرتين: سيرة مرئية الحدود، لا تحجب المراجع التي «استلهمت» منها دلالة الإبداع، وسيرة عن اللامرئي الجليل، الذي تحاول الكتابة جعله مرئياً. يتراجع عندها معنى إيقاع الذاكرة، الذي تبنيه السيرة الذاتية بصور متفرقة أقرب إلى التشتّث، ويتقدم شكل إنطاق الذاكرة، ونقل صورها الغائمة المزنّرة بالضباب إلى حيّز الكلام. إذ الصورة هي شكل صوغها، وإذا الصورة المصاغة من وجوه الثقافة المندرجة فيها، وإذا الصورة حسنة الصوغ، أنيقة الثقافة. عن هذا الحوار، المحسوب وغير المحسوب معاً، بين شقوق الذاكرة ومراجع الكتابة الأدبية المتعددة، صدر نص إبداعي أحسن الالتحاق بالمراجع التي تعلّم منها. أدرج الكاتب في نصه ذاكرة تستيقظ وتنام كما تشاء، وجملة أسماء قالت ما أراد قوله، وأعاد ما قالته في شكل جديد، معلناً عن انتمائه إلى نسق من الكتابة المبدعة، أو طامحاً إلى هذا الانتماء أو متطلعاً إليه. والأسماء المتعاقبة، التي جاءت من دون تعمّل أو اصطناع، كثيرة: الشاعر البرتغالي بيسوا، الشاحب القلق الهارب من عزلة إلى أخرى، ابن عربي الحالم المشدود إلى تأويل الأحلام، الكتاب المقدس الذي تشرّب قلب الكاتب تعاليمه طفلاً، وميلتون الذي أجرى حواراً بين آدم والملاك وبودلير الذي أخذ على الملاك لهوه الخفيف، ورامبو الباحث عن اليقين في مواطن اللا يقين، وصولاً إلى «غريب» كامو وذلك «الرجل» الذي تنقصه «الصفات»، الذي كتب عنه روبرت موزيل رواية شاسعة. لم يتعمّل الكاتب نثر الأسماء في شكل مجانيّ، بل أضاء قوله واعتنى بالإضاءة، منتهياً إلى قول يظل قلقاً، على رغم حسن الإضاءة: يوحّد الشجن بين قلوب ترى في الحياة تجربة، وترى في الإبداع المؤلم خلاصاً لها. إنها أقدار المرايا، التي تعكس ملامح القلوب، ولا ترى إلى ألوان الوجوه إلا قليلاً. وبداهة فإن قيمة نص وازن، وهي عالية، لا تأتي من الأسماء المتناثرة فيه، أو من محاكاتها المستحيلة، بل من لغته وكثافته وعمقه والجهد، القصدي والعفوي، المبذول فيه. وذلك التكامل بين قول الكاتب وأصداء المراجع الشعرية والفلسفية والروائية التي ارتضى بها. أما الوجه الأكثر نفاذاً ولمعاناً، في «قلب مفتوح»، فيتمثّل في شخصنة الخواطر الإنسانية، إن صح القول، ذلك أن السارد النجيب مرّ على ألوان مختلفة من «المرئي» الذي يحاور الإنسان من دون كلام، ومن «اللامرئي»، الذي يحاوره الإنسان ولا يصل إلى إجابة. عبّر، في الحالين، عن فضول إنساني لا يمكن إشباعه، وعن حيرة متأبدة تعالجها اللغة برتل من الإبداع طويل. يحضر المرئي المريب المراوغ المحيّر في أشكال كثيرة: الليل، القمر، العمى، الكآبة، الصورة، ومواضيع نظيرة، ملقية أسئلتها الواسعة على إنسان قلق محدود الوجود. ويأتي اللامرئي في متواليات متوالدة: الموت، الحنين، الملاك، الله، المقدس، الحلم، وأوجاع السيد المسيح وهو ذاهب إلى صلبه... حوّلت الكتابة المبدعة «الأحوال» إلى «شخصيات»، واشتقت من «شخصيات عارضة» دلالة الأحوال والوجد الإنساني. وإذا كان الناقد الروائي، بالمعنى التقليدي، يقرأ «الفعل الروائي» في تفاعل الشخصيات والاعتراف المتبادل في ما بينها، فقد شاء عبده وازن «رواية أخرى»، شخصياتها من أطياف وهواجس ورؤى، حيث الحلم ينهض واقفاً واسع العينين، وللكآبة الثقيلة ملابسها الرطبة وخطوها الساحق، وحيث للرائحة قامة ممشوقة وجسد لدن وابتسامة تنعش الروح ثم تغيب. صيّر الكاتب، وبرهافة عالية، متواليات «أحوال الروح» إلى متواليات حكائية، مازجاً بين المرئي واللامرئي، ومستولداً من اللامرئي قامات واضحة، تسأل وتجيب، أو تكتفي بالسؤال وتمضي. أين الفعل الروائي في كل هذا؟ إنه تكامل الصور المتناثرة والحوار المربك بين المرئي واللامرئي، والإحالات المتبادلة بين الإشارات والمواضيع. أين يكمن التميّز في عمل عبده وازن؟ إذا أراد السائل إجابة، أو شبه إجابة، قال: يكمن تميّز نص «قلب مفتوح» في العلاقات المتبادلة بين الموضوع ومنظوره وتقنيته الكتابية واللغة التي ترجمت ما أرادت في شكل مطابق. ولكن ما معنى هذا الكلام؟ أقام الكاتب نصه على موضوع :الولادة الجديدة، التي تأمر «الوليد المسيحي» بالعودة إلى «أصله القديم»، حيث الولادة مباركة، والأصل طاهر نقي، باركه السيد المسيح بإشارات متوارثة، تربط الولد بأبيه، وتشدّهما معاً إلى «هالة قديمة» عصيّة على التعريف. ومن هذا «البعيد» جاءت «أسرار القلب»، وإلى هذا البعيد تعود أسرار القلب، والأسرار جميعاً شفافة واضحة لعيني السيد المسيح لأنه قريب من الله. تتأتى الدلالة من عناق كلمات ثلاث: القلب، وهو أعمق ما في الإنسان، والمسيح الذي يستطيع قراءة القلوب، والسر الذي يدور طويلاً في القلب الإنساني، ولا يعثر الإنسان على جواب أخير. والمسيح، في هذه السيرة الذاتية التي تشبه الرواية، مجاز واسع، يصرّح بالإيمان المتسامح وبقوة الإنسان وضعفه، وبتلك الرحمة الواسعة التي تساوي بين البشر. وحضور المسيح طالب بلغة إشارية تنفذ من السطح إلى الجوهر، وتحاذر التعبير عن الراحة. ولهذا تعامل الكاتب مع جميع مخلوقاته بحنان دافق، وطرح أسئلة وعثر على بعض إجابات، وأعلن أن «السر الإنساني» لا يستنفذ، وأن حقيقة الإنسان من أصله البعيد، المسوّر بالنقاء والبراءة والجمال. ولعل هذا المنظور، الذي يبدأ من غرفة بيضاء مغلقة ويعود إلى زمن طاهر قديم، أو الذي يبدأ بالسدر وينتهي به، هو الذي فرض كتابة يقترب فيها النثر من الشعر ويعانق الشعر فيها النثر، وأسلم المعاني إلى متواليات من الصور والأطياف والملامح الناقصة المتعانقة. ذلك أن كتابة السر لا تستقيم إلا بكتابة مغايرة تصالح بين الشعر والنثر وتطرق باب الأساطير ولو قليلاً. قدّم عبده وازن، في «قلب مفتوح»، سيرته الإبداعية، وأضاء فيها معنى الإبداع، من حيث هو، مبرهناً أن المبدع الحقيقي امتداد لمبدعين حقيقيين رأى فيهم، ذات يوم، مثالاً متجدداً له. والكتاب هذا هو إضافة نوعية الى النثر العربي الحديث في العقود الأخيرة.