هل يحتمي وديع سعادة بقصيدته في مواجهة غربتين واقعية وروحية؟ يحضر السؤال وأنا أتجوّل في سطور مجموعته الشعرية الجديدة «قل للعابر أن يعود ..نسي هنا ظلّه»، فالعابر الذي مضى عن المكان لم يزل فيه ولو استعار الشاعر لوجوده الظلّ رمزاً لحضور أراده منذ عنوان المجموعة زئبقياً وملتبساً وأقرب إلى عوالم المخيلة أكثر من الواقع والحياة الحقيقية. وديع سعادة في «قل للعابر» يحضر بهواجسه كمن يستحضر حياة موازية قد تشبه الحياة ولكنها ليست هي، بل ولا حتى صورتها. هي ربما ظلالها التي تتخايل في روح الشاعر، والتي تبدو في جانب مهم منها معادلاً فنياً للذاكرة المثقلة والقلقة. هل تملك الذاكرة أن تكون مساحة الشعر هكذا دون معين يقظ ومفعم بالجرأة؟ أعتقد أن وديع في قصائد هذه المجموعة الجديدة يزجُ ذاكرته في أتون مخيلته، ويجتهد ببراعة أن يكون نتاج تفاعلهما مشاهد طويلة ومتعددة اللوحات والصور وحتى الأصوات، منحازاًَ في ذلك لرغبة في إنجاز شعر فيه الكثير من عناصر الحياة بحيويتها وسيرورتها، دون أن يبتغي تماماً رسم الحياة ذاتها. هو يقرأ كثافة الذاكرة بحدقة المخيلة على نحو يشير أكثر ما يشير لاستعادة الحياة، فيما يشبه اشتباكاًَ متصلاً مع الفقد بمعناه الواسع، أو إذا شئنا الدقة بمعناه الشامل: «وحين نأى هدأت الريح. / كان في العاصفة. مقتلعاً مخلّعاً مشلّعاً» ستمضي بنا القصائد في مناخات شعرية أقرب للحلم وإن بظلال لا تحصى: الحديث بصيغة راوية يحدّث عن شخص آخر يتيح للشاعر – الراوية أن ينتحي جانباً وكأنه في مساحة الحياد، لكننا مع ذلك نقبل «لعبة» الشاعر و»لعبة» الشعر، ونتواطأ معها كي نمتحن نحن أيضاً علاقتنا بتلك «السرديات» في تداعياتها، وبالذات في جموحها نحو ما هو أكثر فردية، أي بكلام آخر دخولها القصي إلى الداخلي المشبع بالمرارات العديدة والمتنوعة. لا يقين هنا سوى اليأس من «ماض» بشبه حاضراً إن لم نغامر أبعد من ذلك فنرى فيه ظلالاً رمادية تلقي نفسها بحدّة على بوابات المستقبل. الشعر هنا يلوذ بالخسارات ممعناً في التحديق فيرى ويستعيد ويبني مشاهد لها مذاقات الحياة العاصفة وجموحها. هي كتابة تمتحن ذاتها ووجودها في يقينها من الخراب وتعبيرها عنه وإن يكن «خراباً جميلاً». بين أسماء وقامات شعرية بارزة في تجربة قصيدة النثر اللبنانية ( عباس بيضون، بول شاوول، بسام حجار، عبده وازن، عقل العويط ) يمكن القول إن وديع سعادة امتلك منذ بداياته الأولى طريقه الخاص، والذي تميز بانتباهاته للعلاقة الحيوية بين رؤية الحدقة وبين الفكرة المجرّدة على نحو يضيء العوالم الداخلية ويضعها في بؤرة الشعر. هو يرى ويتأمّل وفي رؤيته وتأمُله يفتح نوافذ قصيدته على تجربته الفردية فيروي «وقائعها» باعتبارها «سيرة» أو وقائع من السيرة الذاتية دون أن تنغمس القصيدة تماماً في استحضار تلك السيرة. وعي الشعر هنا يأتلف مع وعي جماليات قصيدة النثر التي تجد فضاءها الأرحب والأجمل في مناوشة التفاصيل والجزئيات في صورتها «الكليّة». هي قراءات تعبيرية تذهب بعيداً في استقصاء الألم والوحشة وصورتيهما في روح الشاعر فتحتمي منهما بجماليات الشعر وحميميته: «النائمون على الحافة جميلون / لا النهار لهم ولا الطريق / ليس عليهم أن يروا ولا أن يشموا / النائمون على الحافة / وصلوا». لافت هنا أن المجموعات الشعرية الأخيرة لوديع سعادة نشرها صاحبها عبر الإنترنت معرضاً عن النشر الورقي في خطوة احتجاج صريحة على أساليب النشر السائدة هذه الأيام. واضح أن هذه الخطوة كسرت حواجز كثيرة تقف عادة أمام الشعر وبالذات الشعر الجديد، فمن يتابع تجربة سعادة الشعرية منذ بداياتها الأولى يعرف أن مجموعاته التي نشرها في الإنترنت لاقت انتشاراً واسعاً، وحظيت بقراءات كثيفة ما يعني بالنسبة لنا أن الخروج على تقليدية الكتابة الشعرية أوصل بالضرورة إلى خروج عن أنماط التوصيل التي تربط الشاعر وشعره بجمهور الشعر العربي. وديع سعادة في «قل للعابر أن يعود... نسي هنا ظلّه» يواصل إنضاج شعرية بدأت ناضجة منذ المجموعة الأولى، هو الذي كسر أنماطاً، وخرج على مألوف قصيدة النثر كما أبدعها روادها الأوائل، إذ زجّها في أتون الحياة بتفاصيلها وأدخلها في أسئلة الروح والاغتراب والفلسفة والحب، فأبدع وتألق.