يتفق الآباء في أنهم يحفظون من حياتهم الماضية مشاهد محددة -بمناسبة أو بدون مناسبة- يقومون بسردها على مسامع أبنائهم الذين (قد) يملون من تكرار حكايات بعينها، يجبرون على الإنصات إليها لعشرات المرات. ولكونه شُرِّفَ بأن يكون مقاتلاً في حرب 48، فإن أبي لم يكف -حتى الآن- عن وصف التركيبة البشرية النقية لأهل غزة في مقابل ما يتفوق به الإسرائيليون من طبيعة دموية تتلذذ برؤية الدماء العربية وهي تسيل أمام أعينهم. يفاخر أبي بأنه قتل صهاينة بيديه اللتين أتلذذ بدوري كلما قبلتهما وأنا أستمع إلى قصصه المصابة بفقد الأصدقاء، وخيانة القيادات والحلم الفلسطيني العربي باستعادة القدس وطرد اليهود من الأرض.. مازال أبي لا يعترف بالدولة العبرية ويطلق على سكانها لفظ «العصابات»، ولأن عينيه لم تعد تساعدانه على رؤية الأحداث في التليفزيون فإنه يحتفظ براديو يضعه على رفّ خلفه، يصب على رأسه -خلال عشرات السنين- مئات الآلاف من الأخبار ليس من بينها ما ينتظره.. تحرير القدس! أكتب هذه الكلمات بعد أن وصلتني رسالة من غزة تمنت صاحبتها أن تقصف إسرائيل معبر رفح حتى يتوقف المصريون عن السخرية من الرئيس مرسي الذي بدأ في تقديم مساعدات ربما تنجح في تخفيف معاناتهم اليومية التي قالت إنها تشبه الجحيم. حكت ندى أحمد كاتبة الرسالة عن حالات انتحار مفزعة يقدم عليها الشباب هناك لأنهاء حياة لا طاقة لهم بها. سخرية موجعة سببت لها الحرج: «كرهت تعليقات بتصور للناس إن غزة دولة لوحدها، نسيوا إنها جزء من فلسطين، ونسيوا إن حجم غزة يساوي محافظة ونص من مصر». «يعنى مش حمل، كل هالحمل عليها، بعدين مصر أم الدنيا لكن.. البعض قلل قيمتها عنا، بعدين بالنسبة للناس اللى بتتريق على غزة مش عارفة شو الهبل فى واحد صرح على فضائية مصرية إن دخل الفرد فى غزة ألف دولار، ما بدهم سلام عشان المساعدات، غبى!.. مش عارف إن غزة كلها مؤسسات حكومية، وفيها ناس بتقبض مرتبات فوق الألف دولار، وناس 300 دولار وفيها ناس ما بتاخد أي شيكل لأنها من الطبقة العاملة اللى وفرتها إسرائيل -فنشتها- بعد الانتفاضة الأولى». «غزة عايشة على المساعدات.. المساعدات الضخمة للقادة؛ لسياراتهم؛ وقصورهم؛ لكن المواطن العادى زيه زي أي مواطن بأي دولة؛ شغل فيه راتب أو ما في شغل ما في راتب بالآخر، بالنسبة للكهربا آخر الشهر فيه فاتورة ما بتدفع بيقطعوا سلك الكهربا عنك، أو بيخصموا الفاتورة من مرتبك، من البنك غصب عن أبوك!».«مساعدة الكهربا عن طريق السولار في مقابل فلوس (طبعاً)، وفيه خط كهربا بجنوب القطاع مربوط بمصر برضه بفلوس». انتهت رسالة السيدة الفلسطينية التي أردت نشرها ليقرأها أصحاب الضمائر من المعارضين للرئيس في هذا الأمر، بينما يبقى الكلام حول تصنيف هؤلاء المعارضين. آخر سطر: أبي يحب فلسطين.. وأمي لا تغار!