شهدت فترة النضوج السياسي لنورالدين زنكي نجاحات كبيرة ضد الصليبيين؛ حيث اتجهت الحرب بين المسلمين والصليبيين في بلاد الشام إلى وجهة جديدة، وهي وجهة الجنوب الغربي داخل الأراضي المصرية التابعة للدولة الفاطمية. بدأ التنافس بين نورالدين محمود والصليبيين على ضمها، ويعود سبب ذلك إلى نجاح نورالدين محمود زنكي في تحقيق الوحدة الإسلامية في بلاد الشام بين حلب وحماة، وحمص، ودمشق، وإغلاق الباب أمام التوسع الصليبي في الاتجاه الشمالي الشرقي، فلم يكن أمام الصليبيين إلا أن يتوجهوا إلى مصر في اتجاه الجنوب الغربي، ومما ساعد الطرفين على التنافس على مصر الأحوال السيئة التي مرت بها الدولة الفاطمية آنذاك؛ بسبب ضعف الخلفاء والصراعات التي حدثت بين الوزراء على السلطة. وشهدت مصر في تلك الفترة صراعاً قوياً بين الوزيرين «شاور السعدي»، و»ضرغام ابن عامر»؛ حيث استنجد الوزير «شاور» بنورالدين ضد «ضرغام»؛ مما جعل نور الدين يسيِّر حملة عسكرية بقيادة «أسد الدين شيركوه»، عم صلاح الدين الأيوبي، إلى مصر، وذلك سنة 559ه/ 1164م، وعندما نجح «شيركوه» في القضاء على «ضرغام» نكث «شاور» بالعهد، واستنجد بالصليبيين، وأغراهم بدفع المال إن هم طردوا قوات نورالدين من مصر، فرحب الملك الصليبي «عموري الأول» بالدعوة، وأسرع إلى تلبيتها خوفاً من أن يمتلك نورالدين مصر، وأملاً في أن يتمكنوا هم من الاستيلاء عليها. ويعلق أحد المؤرخين الإسلاميين على ذلك بقوله: (… فلما أرسل شاور إليهم يستنجدهم، ويطلب منهم أن يساعدوه على إخراج أسدالدين من البلاد، جاءهم فرج لم يحتسبوه، وسارعوا إلى تلبية دعوته ونصرته، وطمعوا في ملك الديار المصرية). إذاً، أصبح هناك تحالف صليبي فاطمي ضد نورالدين محمود؛ حيث تمكن الجيش الصليبي من محاصرة أسدالدين شيركوه في مدينة (بلبيس) لمدة ثلاثة أشهر حتى توصلوا في نهاية الأمر إلى هدنة فيما بينهم تقضي بمغادرة كل فريق إلى بلاده. وفي منتصف ربيع الأول من عام 562ه/ أوائل يناير 1167م، عاد «أسدالدين شيركوه» إلى مصر في حملته الثانية، ولما سمع «شاور» بقدومه استنجد بالصليبيين مرة أخرى، فأتوه مسرعين طمعاً في ملكها، وعندما وصل الصليبيون سارع «شاور» إلى عقد هدنة مع الصليبيين يلتزم هو بدفع مبلغ من المال، وقدره 400 ألف دينار، على أن يتكفل «عموري الأول» بالبقاء في مصر حتى يتم طرد شيركوه منها، وقد صُدّقت بنود هذه المعاهدة من الخليفة الفاطمي «العاضد». ودارت معارك بين شيركوه والصليبيين على أرض مصر، وتم حصار صلاح الدين الأيوبي ومن معه من قواته في مدينة الإسكندرية، وتوصل الجانبان في نهاية الأمر إلى هدنة بينهما على أن يغادر الجيش النوري مصر. في هذه الفترة، استغل الصليبيون الأحوال السيئة التي تمر بها الخلافة الفاطمية، فاحتلوا مدينة بلبيس، واستولوا عليها، وقتلوا معظم سكانها، ولما علم شاور بذلك أمر بإحراق الفسطاط قبل يوم واحد من نزول الصليبيين عليها، وتفيد المصادر بأن النار استمرت مشتعلة بالفسطاط لمدة 54 يوماً، تمكن بعدها شاور من دفع بعض المال إلى «عموري الأول»؛ مما جعله ينسحب إلى مكان يسمى «المطرية»، ويبعد ثمانية أميال عن القاهرة. وفي السابع من ربيع الأول 564ه/ الثامن من يناير 1169م، وصل شيركوه إلى القاهرة في حملته الثالثة والأخيرة؛ باستدعاء وطلب من الخليفة العاضد، حيث تمكن شيركوه من قتل (شاور) والتخلص منه بعد أن غادر الجيش الصليبي أراضي مصر، وأصبح شيركوه هو الوزير الأول بأمر العاضد، لكنه لم يلبث في الوزارة سوى شهرين حتى توفي، خلفه من بعده صلاح الدين الأيوبي، وصار هو الوزير الأول في مصر. ولكن ما الأعمال التي قام بها صلاح الدين الأيوبي خلال فترة وزارته في مصر؟ أنطاكية