ضعفت أحوال الصليبيين في الشام بعد استرداد عماد الدين زنكي إمارة الرها عام 539ه/ 1144م، حيث لم يتمكنوا من اتخاذ أي إجراء فعال ضد المسلمين رداً على سقوطها بأيدي المسلمين. وبعد وفاة عماد الدين زنكي، واصل ابنه نور الدين زنكي عملية الجهاد الإسلامي ضد الصليبيين. ومن وجهة نظر شخصية، فإن نور الدين زنكي يُعد هو من أسس البداية الحقيقية للجهاد ضد الصليبيين؛ حيث دعَّم روح الجهاد في نفوس المسلمين، وأنشأ الأربطة، وأوقف أوقافاً كثيرة خصصها للجهاد ضد الصليبيين، فبدأ معنى الجهاد الحقيقي والمنظم ضد الصليبيين، حتى أن صلاح الدين الأيوبي الذي جاء في ما بعد سار على نهج سيده نور الدين في مواصلته للجهاد ضد الصليبيين، وأصبح نور الدين مثل الشوكة في حلق الصليبيين، فبدأوا يحسبون له ألف حساب، حتى أنه شجع التركمان على أسر القادة الصليبيين مقابل دفع المال لمن يأسرهم ويحضرهم عنده، فحظي عهد نور الدين بأسر العديد من القادة الصليبيين الذين فدوا أنفسهم بالمئات من أسرى المسلمين المأسورين لديهم، وكذلك دفع الأموال الطائلة لفك أسرهم. عموماً، تمكن نور الدين زنكي من الاستقلال بمدينة حلب الاستراتيجية بعد وفاة والده، واستقل أخوه سيف الدين بحكم الموصل، وفي ظل هذه الأوضاع القائمة وقع أمر خطير ومهم بالنسبة إلى المسلمين، فقد نقضت ملكة بيت المقدس (ميلسند) الهدنة التي عقدها الصليبيون مع حاكم دمشق معين الدين أنر، مما جعل حاكم دمشق يلجأ إلى نور الدين ويُعزز العلاقة معه، ولكن هذه العلاقة لم تدم طويلاً بسبب لجوئه إلى الصليبيين مرة أخرى. وكان لسقوط إمارة الرها في يد المسلمين آثاره البالغة على الصليبيين، فكانت الصدمة كبيرة على الغرب الأوربي، ليس بسبب المكانة الدينية التي تتمتع بها المدينة فحسب؛ بل لأنها كانت أول إمارة أسسها الصليبيون في الشرق الأدنى. وكان سقوط الرها نذيراً للصليبيين بفقدان ما تبقى من حصونهم ومعاقلهم في الأراضي المقدسة، ولهذا قامت أوروبا بالدعوة إلى قيام حملة صليبية جديدة تُنقذ الصليبيين الذين بالشام، وتدعم مكانتهم. قدمت الحملة الصليبية الثانية إلى بلاد المشرق الإسلامي سنة 543ه/ 1148م، استجابة لمطالب الصليبيين الموجودين بالشرق الأدنى، وذلك لتدعيم مركزهم وتثبيت وجودهم، واتخذ قادة الحملة الصليبية قراراً أضر بها كثيراً، وتمثل في مهاجمة دمشق، حيث أفسد هذا القرار العلاقات الودية التي كانت قائمة بين دمشق ومملكة بيت المقدس كلياً. وفشلت الحملة الصليبية الثانية فشلاً ذريعاً في تحقيق بعض من النتائج الإيجابية، فقد تفرقت الحملة من أمام دمشق بعد تهديد حاكم دمشق لهم بأنه سيستدعي حاكم الموصل سيف الدين زنكي، ويسلم له دمشق، وإذا سلم دمشق للزنكيين أصبح الخطر قائماً على الوجود الصليبي في الشام، وكذلك الأموال التي دفعها معين الدين أنر لبعض القادة الصليبيين ساهمت في فك الحصار عن دمشق. وبعد رحيل الصليبيين من أمام دمشق، حاول نور الدين زنكي ضم دمشق إليه كما كان يفكر والده؛ ليُكوّن جبهة إسلامية واحدة قوية ضد الصليبيين، لكن محاولته الأولى باءت بالفشل، وعندما تمكن الصليبيون من احتلال مدينة عسقلان الاستراتيجية التابعة للدولة الفاطمية سنة 548ه/ 1153م، أسرع نور الدين زنكي في ضم دمشق إليه سنة 549ه/ 1154ه، خوفاً من أن يحتلها الصليبيون في ما بعد. لقد كان ضم نور الدين زنكي لدمشق نقطة تحول خطيرة في تاريخ الحروب الصليبية بين المسلمين والصليبيين، حيث توحدت بلاد الشام تحت زعامته، وهكذا تشكلت جبهة قوية امتدت من الرها شمالاً، حتى حوران جنوباً، ومركزها دمشق، وأصبح هناك توازن فعلي في القوى بين المسلمين والصليبيين في بلاد الشام. ولكن، ما هي السياسات التي اتبعها كل فريق ضد الآخر ليعزز قوته ومكانته في بلاد الشام؟ نور الدين زنكي