لسبب غير معلوم لا أستطيع كلما قرأت مسرحية شكسبير الأشهر «هاملت» التفكير فحسب في إذا ما كانت -أي المسرحية تناقش قضية المثقف «المضروب بالثقافة» أم أنها تناقش قضية علاقة السلطة بالدين أم أنها لا تجد ما تناقشه. لا أستطيع كلما قرأتها إلا السؤال: «أين الشعب من كل هذا؟». ذلك أن كل هذه الأحداث الرهيبة، التي مرت بها المملكة، والتي مرت بحفنة من الشخصيات وتسببت في موتهم كلهم حتى سقطوا جميعهم على أرضية المسرح في النهاية غارقين في دمهم، مرت دون أن يحتفظ شكسبير بلوحة واحدة من لوحات المسرحية لنعرف رأي السيد «الشعب» في كل ما يجري في المملكة التي من المفترض أن له رأيا فيها. شكسبير كهاملت فيما يبدو كان مثقفاً أكثر من اللازم، وإن كانت مسودات مسرحياته الملطخة بالزيت تقول إنه كان يفضل القاع الاجتماعي. كان شكسبير مثقفاً والسلام، لهذا لم ينشغل بمواطنيه (على الأقل في هذه المسرحية) وظل مهموماً بهاملته المنسحق تحت النظريات الفلسفية التي درسها في جامعة جوتنبرج، فالأخير يظل طوال المسرحية بفصولها الخمسة يعرف ما ينبغي عليه فعله بينما يتردد في المضي قدما لفعله، تاركا المبادرة للآخرين الذين حاكوا المكائد الممكنة كلها للبقاء في السلطة، فالموضوع بالنسبة لهم ليس «مكلكعا» أو معقداً كما هو بالنسبة لهاملت. أزمة الشعوب في تاريخها -كما لا تظهر في المسرحيات الكبيرة أنها تفكر بطرق مختلفة في العالم، طرق لا تخطر على بال النخب المنشغلة بالتنظير ليل نهار. تبدو الشعوب دائما كأنها تفضل إنابة النخب الثقافية والسياسية في التفكير بدلا عنها، والتصرف نيابة عنها، غير عابئة بأن هذه النخب لا تجيد إلا الكلام في غالب الأمر، وعوضا عن فشلها -أي النخب- في اتخاذ القرار المناسب في وقته فإنها تتكلم وتتكلم، وفي النهاية تتكلم! في مصر الآن يلومون الشعب لأنه لم يخرج للميادين احتجاجاً على الإعلان الدستوري المكمل، وقبلها لاموا على الشعب عدم خروجه لرفض حل البرلمان، وقبلها لاموا على الشعب عدم خروجه لرفض وثيقة السلمي، ومع هذا خرج الشعب المصري ليقول كلمته يوم 25 يناير، وخرج ليقول كلمته للمطالبة بالقصاص من قاتليه، وخرج ليقول كلمته لرفض بقاء مبارك في شرم الشيخ، وخرج ليقول كلمته للاعتداء على الثوار في شارعي محمد محمود ومجلس الوزراء. الشعب يقول كلمته في الوقت الذي يناسبه، ويقول كلمته هو لا كلمة النخب الهاملتية. لم ينتظر الشعب المصري نخبه كي تنظّر لضرورة حل الحزب الوطني.. الشعب حله بنفسه. الشعوب تقول كلمتها دون حاجة للنخب.. الشعوب في واد والنخب في واد آخر. صحيح أن النخب تبدو أحيانا في صورة البصير بالأمور لكن الأيام تثبت أن الشعب لا يخرج إلا لما يصدقه، لا تخيل عليه ادعاءات النخب السياسية، ولا مصالحهم الحزبية الضيقة. النخب السياسية تملك أدوات الحشد لكن الحشد الشعبي لا يحدث إلا حين يشعر الشعب بأن في الحشد مصلحته. لا تملك الشعوب رفاهية هاملت للتفكير في النظريات، ولا تملك انتهازية السياسيين. الشعوب تتصرف وفق حدسها، وفق وعيها الخاص، لهذا أقول إن عشرين عاماً من الصمت -هي الفترة الأسوأ في حكم مبارك- لم تعن أبدا قلة وعي، ولا ضعف إرادة، ولكن تعني بوصلة مختلفة فحسب، تحيّن الفرصة، اكتشاف الضرورة. على النحو نفسه كان صمت السوريين والسودانيين والليبيين والتونسيين، وغيرهم. على النحو نفسه كانت هبّات تلك الشعوب وانتفاضتها، فلا النخب فهمت لماذا صمتت هذه الشعوب ولا النخب فهمت لماذا انتفضت. لا يفهم المثقفون ولا الساسة بوصلة الشعوب، الشعوب نفسها لا تفهم بوصلتها، هي بوصلة جماعية، أشبه بالقصص الشعبية التي تبدأ بسيطة وقصيرة ثم يضيف لها من يضيف ويحذف منها من يحذف ويبدل فيها من يبدل، حتى إذا ما اكتملت بدت عبقرية في بناها، فذة في مضمونها، بهية في شكلها، عظيمة في مغزاها. النخب تكتب قصصاً رائعة ولكنها قصص معروف كاتبها ومعروفة ثقافته ومقتضيات عصره ويمكن سؤاله في أي وقت عما كان يقصده منها، ومع هذا تظل قصصاً فردية الصنع، أما القصص التي تصنعها الشعوب وترويها فتظل أبدا ملغزة بقدر جمالها. سوف تستمر النخب في كل مكان تتساءل عما يمكن أن يُفعل، عما يجب أن يُفعل، وسوف تستمر أيضا في التفاجؤ كلما انتفضت شعوبها، ففي ذات لحظة سوف ينهي شعب هنا أو هناك روايته ويمضي وسط ذهول من نخبه السياسية والثقافية، نخبه المشغولة بالكلام والكلام، فبالنسبة للشعوب الأمر ليس «مكلكعاً» كما هو بالنسبة للنخب.