في أوائل التسعينيات من القرن الماضي، أوسع المنظر الأمريكي من أصل ياباني فرنسيس فوكوياما العالم شغبا فكريا بحديثه عن «النهايات»: «نهاية التاريخ» و« نهاية الأيديولوجيا»… وأعلن بافتخار نبأ الفوز الساحق للديمقراطية الليبرالية في «نهاية» القرن العشرين، ولكنه عاد اليوم ليمارس النقد الذاتي ويراجع أطروحاته، مؤكدا أن الأزمة الاقتصادية العالمية منذ العام 2008 أظهرت النظام السياسي في الولاياتالمتحدة وكأنه «مختل عقليا»، وقال: لقد أثبتت الأحداث أن «ديمقراطية حق النقض» قادرة على التغلب على الديمقراطية الليبرالية، وبصرف النظر عن الفائز في انتخابات 2012 الرئاسية. فاليوم يقود مبدأ الفصل بين السلطات (أهم مبادئ الديمقراطية الليبرالية) إلى حالة أشبه بالشلل السياسي – الاقتصادي الكامل، وهو المبدأ الذي أرساه الآباء المؤسسين للولايات المتحدة تحت تأثير فلسفة «مونتسكيو» السياسية، وكأن «فوكوياما» هنا مجرد صدي ل»جاك دريدا» في كتابه (أشباح ماركس). فقد شهد العام 1993، طوفان من الكتابات المؤيدة والمعارضة في نفس الوقت لنظرية «فرنسيس فوكوياما» عن (نهاية التاريخ)، وأصدر الفيلسوف الفرنسي من أصل جزائري «جاك دريدا» كتابه «أطياف ماركس» الذي تنبأ فيه بالمظاهرات المناهضة للعولمة التي تملأ الساحة اليوم، والأزمة الاقتصادية العالمية عام (2008) وميلاد «الدولة الديمقراطية القمعية» رغم أنه توفي عام 2004. ففي هذا الكتاب النبوءة جادل «فوكوياما» جدلاً عقلانيًا، وقال: بأن الديمقراطية الليبرالية لم تتحقق في كل بلدان العالم كي نقول بأن التاريخ قد انتهى، ناهيك عن أنها لم تجد حلاً حتى الآن لمشكلة الفقر والبؤس الاجتماعي، حتى داخل المجتمعات الغربية نفسها. فقد أدت العولمة في مطلع الألفية الثالثة، بسبب إسقاطها المستمر لحدود الزمان والمكان ، إلي حدوث اضطرابات في مجمل وظائف «الدولة»، ومن ثم في مشروعيتها نفسها. كما أن تضاعف المعادلات وتنامي الاتفاقيات الدولية (كالجات)، أدي إلى تعديل التشريعات الوطنية، وإعادة تشكيلها في كل ما له تأثير على التبادل، فما يحدد التشريع اليوم هو حتمية التكيف مع المنافسة الدولية أكثر منه «إرادة الشعب» في الدول الديمقراطية المتقدمة.وحسب فيليب مورو ديفارج في كتابه العولمة: «إذا كانت الدولة في شكلها الحديث قد ازدهرت في صورة الدولة الحامية، وفرضت نفسها بوصفها إطاراً للتضامن المؤسسي بين: الأغنياء والفقراء، الأصحاء والمرضى، الفاعلين وغير الفاعلين إلخ، وبذا حلت محل أنواع التضامن التقليدي «كالأسرة»، فإن التدويل واندفاعاته الأساسية بفعل العولمة، وضع الدولة أمام معضلة شديدة التعقيد، إذ تطلبت حتمية المنافسة، التحلل من أعباء هذا التضامن ومحاباة بعض الفئات والمناطق المحظوظة من البلاد التي تتوافق مع آليات المنافسة: هكذا أثرت «العولمة» على مشروعية الدولة من أعلى ومن أسفل، فماذا يعني الاقتراع الشعبي (الانتخاب الحر المباشر) اليوم، بعد أن سقطت الدولة في حمم القيود والقواعد الدولية؟». وهي نفس الفكرة التي أكدها كل من بيتر مارتن وشومان في كتابهما «فخ العولمة»: «فقد أدي التحول الحاصل في بنية الاقتصاد العالمي مع ظهور الشركات العابرة للقوميات، إلى تحول جوهري في دور «الدولة» ووظيفتها ومن ثم مفهومها التقليدي، إذ أن انفلات رأس المال ماديًا وأيديولوجياً من قاعدته القومية، أفرز مؤسسات اقتصادية وحقوقية (فوق قومية) تخدم مصالح الرأسمالية العالمية. وبدلاً من أن يؤدي ذلك إلى انحلال أو اضمحلال «الدولة»، وإن كانت تعيش حالة عامة من التراجع والانحسار، تبرز الدولة وأهميتها من جديد، باعتبارها ضرورة للطبقات المسيطرة (لقمع) أولئك الذين يسوء وضعهم الاقتصادي فيتمردون على النظام الدولي الجديد في الداخل أو الخارج. وقد كان تزايد أهمية الدور القمعي الداخلي والخارجي للدولة (الديمقراطية) الرأسمالية واضحاً في ضرب الاحتجاجات المناهضة للعولمة في واشنطن وسياتل وغيرهما في العقد الأول من الألفية الثالثة، ثم في نيويورك ولندن ومدريد وأثينا وتل أبيب وموسكو، في العام 2011 وما بعده. من هنا فإن الدولة ستلجأ – منذ الآن فصاعدا- إلى أساليب قمعية لتقييد الحريات، حرية الفكر والرأي والتعبير وحق التظاهر والاعتصام، مؤكدة صفتها «السلطوية» كدولة، مما يعني، في النهاية، أن الدولة في ظل «العولمة» ستتحول من كونها دولة «ديموقراطية»إلى دولة «ديمقراطية – قمعية»، خاصة مع تفاقم الأزمة الاقتصادية العالمية وتزايد الاحتجاجات والاضطرابات، وارتفاع نسب البطالة وتزايد معدلات الفقر والتضخم والركود الاقتصادي، وهو ما تنبأ به «جاك دريدا» في كتابه (أشباح ماركس) قبل عقدين من الزمان.