يحكي علي الوردي في كتابه (أسطورة الأدب الرفيع) قصة حدثت في بغداد، حيث كتَبَتْ مصلحة نقل الركاب في حافلاتها جملة تطلب من راكبيها أن يساعدوا الجابي ب «أصغر نقدٍ كافي»، فثار النحويون يريدونها أن تكتب «كافٍ» بدلاً من «كافي» إلا أن المصلحة لم تكترث. ويعلل الوردي ذلك بأن المصلحة كان يهمها أن يفهم الركاب الجملة أكثر من أن تكون صحيحة لغوياً. ثم ينتقد الوردي اللغة العربية وعلم الإعراب في كتابه بصورة شرسة وقاسية، وعلى رغم اختلافي معه في بعض النقاط، إلا أنني أتفق معه في أننا جعلنا من اللغة العربية وعلم البلاغة، هاجساً مفزعاً للكاتب والمتلقي. ويبدو لي أن أحد أسباب ذلك هو أن غالبية اللغويين والأدباء يصرون على تعظيم التراث الأدبي العربي وجعله النبراس الذي على الأجيال الجديدة الاقتداء به بغض النظر عن زمانهم وظروفه. قد نفهم أن المراد هو الحفاظ على جمال اللغة وقواعدها، ولكن كيف نطلب من شاب أو فتاة يعيشان مرحلة ما بعد الحداثة، في عالمٍ لم تعد لغة واحدة تكفي للعيش فيه، ولم يعد تعريف الأدب بالنسبة لهما محصورا في تراث لغتهما الأم، بل تعدى ذلك إلى الإنجليزية والإسبانية والفرنسية وغيرها من اللغات المتداولة في العالم، أن يقرآ البيت الشهير لامرئ القيس «مكر مفر مقبل مدبر معا… كجلمود صخر حطّه السّيل من علِ» دون أخطاء! وأتساءل هنا: لماذا نُنَصّب تراثنا الأدبي العربي مقياساً لمدى ارتقاء ثقافتنا واتساع علمنا وعذوبة تصاورينا الأدبية؟ لا يهمني أن يعرف الشباب امرأ القيس أو يتغنوا بأبياته، ولكن يعنيني كثيراً ألا يفقدوا ثقتهم بجمال لغتهم ويصنّفوها بأنها لغة «كلاسيكية». ولعمري إنهم سيفعلون ذلك إن أوغلنا في تقعير كتاباتنا، وأثقلنا في استخدام الصور البلاغية والجمل الدلالية بإفراط. يقول الوردي: «يمكننا تشبيه النحو العربي بالعقدة النفسية (…) فالخطيب لا يستطيع أن ينطلق في كلامه مخافة أن يخطئ في النحو. والمستمعون لا يكترثون بما يأتي به من المعاني، إنما هم يركزون عنايتهم في تتبع حركات الإعراب من كلامه. وهم لا بد أن يعثروا فيها على لحن، فيهزون رؤوسهم آسفين كأن الكلام لا يحتوي إلا على الفتح والضم والكسر والسكون». وهذا فعلاً ما يحدث لنا اليوم، فلقد انقسم المتلقون إلى فريقين: فريقٌ يبحث عن الجناس والطباق والتورية والتصاوير اللغوية الكلاسيكية ليُقِرّوا بأن الكاتب أو المتحدث يستحق الاهتمام. وفريقٌ رفع راية الاستسلام البيضاء ويمم شطْر الأعمال الأدبية المكتوبة بلغات أخرى غير العربية أو الشعر المترجم المعاصر، الذي قال لي شاعر عربي إنه يستمتع بقراءته أكثر من الشعر العربي لأنه أقرب إلى فهمه ويصف ما بداخله بسهولة ويسر. إن الأدب العربي اليوم، بسبب العولمة وتسارع نمط حياة ما بعد الحداثة، مستعد للتطور والتجديد. إنها لحظات تاريخية تفتح باب الفرص لمجددي الخطاب البلاغي العربي. وقد تكون وسائل التواصل الاجتماعي ظاهرة كونية وستنقضي بعد سنوات، ولكن إفرازاتها الحضارية ونتائجها ستبقى وستغير في وجه الثقافات العالمية، وليس العربية فقط. ومن هذه الإفرازات: الاختصار، والبساطة، واستخدام اللفظ المتداول والبعد عن الإبهام المُفرط. ولا يسعنا في خضم هذه التطورات الإنسانية أن نقول للأجيال الجديدة إن الصواب كل الصواب في قراءة المتنبي وأبي فراس الحمداني وتقليدهما، وعلى رغم حبي الشديد جداً لهما، إلا أنني أدركُ بأن أبنائي لن يقرأوهما كما فعلت، وإن فعلوا، فلن يتذوقوا جمال شعرهما كما فَعَلا أبي وأمي. نحنُ في حاجة إلى تجديد في الثقافة العربية بدءاً باللغة وانتهاء بالإنتاج الأدبي. ولا أعني بالتجديد إلغاء القديم، ولكن عدم تقديم اللفظ على المعنى، وعدم تغليب القاعدة اللغوية على الفكرة الأدبية. ونحتاج لتحقيق ذلك إلى أدباء ينهلون من القديم ثم يعيدون غربلته ويقدمونه بصيغ أكثر قرباً للفهم الاجتماعي العام. فلقد استطاع دانتي أن يفعل ذلك عندما مزج في كتاباته بين مختلف اللغات الإيطالية، الجنوبية والشمالية، لمواجهة المد اللاتيني، وأسس لغة جديدة أصبحت بعد ذلك لغة الأدب وفي نفس الوقت اللغة المتداولة بين الناس، فتأثر بها بترارك، شاعر النهضة الإيطالية الشهير الذي عاصره واستفاد منه الأديب بوكاتشيو. يعزى فضل إيجاد اللغة الإيطالية التي بين أيدينا اليوم لأولئك الأدباء الثلاثة وغيرهم ممن استطاعوا بعبقرية الأديب وبعذوبة الشاعر أن يجعلوا من الأدب لغة مفهومة ومستساغة بين الناس. يقول أبو حيان التوحيدي في وصف البلاغة: «هي ما رضيته الخاصة وفهمته العامة».