عانقت الأفراح ليل أول من أمس الباحة إنساناً وطبيعة وفضاءات ومسؤولية، وأيقظت موسيقى أوبريت ( نعم نعم يا بلادي) المُتقن رؤية وكلمات وألحاناً وأداءً ندى عرعر غابة رغدان ودغدغت أمواج الغيوم شفاه الطفولة المُرتّلة ارتعاشات الماء على عيون القمم، ما أغرى رزانة الجبل بالتخلّي عن وقارها في ليلة استثنائية كان فارسها الأمير مشاري بن سعود المتدثر في ذلك المساء ابتهاج الناس به، وثقتهم فيه، وتعويلهم عليه في النهوض بمنطقتهم، والتفافهم حوله أباً وصديقاً، فيما كان لحضور رئيس الهيئة العامة للسياحة الأمير سلطان بن سلمان عماد آخر في سرادق الحب والتلاحم، ليتفاعل الشخص مع النص في نزال متكافئ على خشبة مسرح متنقل ارتصف عليها الشيوخ والشبان والأطفال مستنطقين التراث إيقاعاً ورقصة ومستعيدين الرجال أفعالاً وذاكرة، وناقلين للحضور والمتابعين أن المساءات المأهولة بالأنسنة ،والمتوشحة بالحماس ،والمعصوبة بتاريخ غير مثقوب قادرة على نزع قناع الوحشة، وإيقاد شموع السهر وإعادة المعنى إلى نقي الكلام.ونجح الشاعر عبدالواحد سعود الزهراني في ابتكار مفردات الروح ، واقتناص أبجدية القلب، ومداعبة أحرف النار، لتأتي كلماته الأوبريتيّة ذاكية في استمطار أحداق وطن، واستنبات أهداب الوجد ، وتفجير مكامن جمال البراعم ، فعرّش بالكلمات على أعمدة المشاعر وغزا الحضور بسياقاته المستعيدة بوعي فاصلة الثابت والمتحوّل و نبرة الأصالة والتجديد ومحطات العشق المباح في مواسم الأفراح ، وداعب خصلات الليل الجامحة بين جبل ( الحُجيّر ) ومسار وادي ( قوب ) ليعطي لفضة الوقت ذهب الألفاظ فخشعت الأسماع لجلال الشعر ومواطن العزف وجهات الترتيل العاصف بحنين الأشياء.فيما اعتنى الملحن المُدهش حسين العلي بالنص ليجعل من اللحن إضافةً لا عبئاً ومن التوزيع لوحة فاتنة ترتقي بذائقة البسطاء وتتعاطف مع انكسارات المُتعبين ليتساقط التعب عن الكواهل وتتمايل الأجساد طرباً وتتردّد صدى الزغاريد في الأنحاء مستثيرة غموض العشب وابتهالات الغصون و شدو الرعاة في ( الأصدار) . ولم يخذل المطرب عبدالله القرني المعجبين بالصوت الشجي، إذ تناغم في الأداء مع حسين العلي، والممثل فيصل الشعيب لتفتح القُرى أذرعها منتشية بهواء الممرات معجبةً بتمرّد النسائم العلية على حواجز العتمة لتتحول شجيرات وممرات غابة رغدان إلى صبايا يتباهين بتناغم الولاء ويبللن أطرافهن بنعيم ربيع الوحدة الوطنية. وأدّت الفرقُ الشعبية في منطقة الباحة ومحافظة بلجرشي ومحافظة المندق ومحافظة القرى لوحات شعبية راقصة روّضت صلافة الجسد ومنحته مرونة استفزاز سر الغياب في جب الأساطير، واستحضار معنى الخرافة من أغوار الكهوف . ويبقى الصدى الأجمل فيما أبدعه مخرج الحفل محمد أبو حريد الذي حوّل الكلمة المنطوقة إلى حركة «فانتازية» مدهشة ، وحفر في صدر الجبل وشم القدرات الوطنية حين تُمنح الفرصة ليغدو المساء على يديه مضيئاً كعيني طفل أنستا الحضور قمر السماء. وكان لحضور الشعر الشعبي مع فارس شاعر المليون علي بن نايف الغامدي إضافة منحتْ ليل الغابة دفئاً واعتداداً بالتجارب المبدعة من أبناء منطقة الباحة.ولا ريب أن اللجنة الرئيسة لمهرجان صيف الباحة برئاسة وكيل الإمارة الدكتور حامد الشمري ولجنة الحفل برئاسة أمين الباحة محمد مجلي نجحتْ إلى حدّ كبير في وضع بصمتها النقية على جدار تاريخ الاحتفالات وأثق أن الإصغاء قليلاً لبعض الأفكار سيوسع الرؤية لتجاوز عدد من الملاحظات بعضها شكلي والآخر جوهري ومن الأشياء أشياء تُقال ولا تُكتب لأن الباحة في ثوب زفافها مضمخة بشذى الكادي لتكون من جميلات المصائف في بلادي.