إنساننا في جانبه الفكري يبدو أنه لغز غريب هكذا هو الحال مع الأسف. والكثير من الباحثين الحقيقين العرب يدرك أنه -أي الإنسان العربي- غير قادر على استيعاب أنه يمارس شيئا يعرفه، أو حتى يحاول أن يعرف الشيء الذي يمارسه. وللخوض في هذا الأمر لا بد أن ندرك مجموعة مسلمات. لعل أهمها كمدخل لهكذا حوار، هو برأيي استيعابنا أن القدرة على الإدراك لا تحتاج في الغالب إلى أداوت معرفية وعلمية بقدر حاجتها إلى الخروج من الدوائر المعرفية ذاتها، بمعنى أن نبتعد عن التحزبّات والتّكلات التي تصنع لدينا تصورات مسبقة توهمنا أننا نرى بعين عقولنا رغم أننا لا نمارس ذلك على أرض الواقع، فجل ما نمارسه هو ترويض الواقع لتصورات متخيلة سابقة له. ليبقى السؤال الأهم برأيي هو كيفية الخروج من معتقلها لنستطيع الحكم على الأمور بشكل أكثر موضوعية وتجريدية قدر ما نستطيع. لقد تحدثت في المقال الأول في هذا الموضوع -وهو ما جعلته منطلقاً ربما وأعيد تكرار ربما يكون مفهوماً وسهل الاستيعاب لدى الغالبية- أن مصطلحاتنا الصغيرة وبعض المفردات التي لا تمتلك أي بعد منطقي، هي جل المنطق لدينا. بمعنى أن ما نعتقد أنه بلا قيمة ولا معنى، هو ذاته من يحمل القيمة الحقيقية والمنطق العميق الذي قد لا نكون قادرين على إدراك قيمته ومعناه وماهيّته. ومن هذه المصطلحات أو ذيك المفردات التي تتشابك وتتشكل في بعض الأحايين كجمل كاملة. قد تكون جملا مهمة في عقلنا الواعي، وقد تكون في بعض المرات أو المراحل هي مجرد جمل عابرة كما هو الحال في جملتنا «الله يكفينا شر هالضحك» التي بدأ من خلالها هذا الحديث. والتي حاولت في البداية توضيحها، قبل أن أتطرق للعلم المعرفي الحديث الذي يمكننا إدراجها من خلاله كسلوك ثقافي اجتماعي عام . ألا وهو علم الثقافة والشخصية الذي أثبت بما لا يدع مجالا للشك، أن الشخصية الإنسانية مع كل عبقريتها أو قصورها، هي في النهاية مجرد نتاج مطلق لظروف تكوينها الاجتماعية. فلو أخذنا مثلا رؤيتنا نحن العرب للغد، لوجدنا أنها تتماهى ما بين عقلنا الواعي الذي تؤثر فيه بشكل مباشر معارفنا العلمية، وما بين رؤيتنا الذاتية الأسطورية التي لا نعرف في الغالب مصدرها إلى هذه اللحظة. ولو أعدنا تقييمنا للأمر لوجدنا أن رؤيتنا هذه تمثل سلوكا وطريقة تعاطي مطلق مع الحياة. فهل طريقة التعاطي مع أي أمر كان هي مجرد تصور أو رؤية رومناطيقية فقط أم هي طريقة حياة؟. هذا هو السؤال الأهم برأيي. بالنسبة لي أرى أن التعاطي مع الحياة بقتامة ليس وهما أبدا، حتى وأن كان في ظاهرة أقرب إلى الوهم منه للحقيقة. فالتعاطي مع الحياة بشكل عام هو رؤية/فكرة لا يعني خطأها عدم وجودها. ورؤية الحياة بقتامة أو انشراح ووردية وبكل الرؤى التي تتوسطهما، تبقى دائما جميعها حقائق لا يفرق بينها سوى الشكل الذي يعتمد تكوينه على المنطلقات والطبائع والبيئة المحيطة والمحرضات لكل شخص منّا، والتي تجعل منه في النهاية يتخّذ موقعا يشكل الزاوية التي لن يرى إلا من خلالها. هذه الرؤية التي لا تمثل سوى مساحة بسيطة من جسد الحياة الضخم. والتي لو غيّرها الإنسان -أي الزاوية- لرأي مساحة أخرى لها لون وشكل وطعم مختلف. يخطي برأيي كل من يظن أن رؤيته للحياة والتعاطي معها بقتامة هي نوع من الوهم الذي يجب التخلّص منه. بل يجب عليه أن يؤمن أن هذه القتامة من الحياة هي حقيقة منها، ولكنها ليست سوى مساحة صغيرة صنعتها زاوية رؤيته هو، وما عليه سوى أن يغيّر معطيات الرؤية فيه للتتغير الزاوية، وبالتالي المساحة التي يراها من الحياة، بغض النظر عن سوداوية هذه الرؤية أو ورديتها. لتقييم هذه الرؤية الإنسانية، يفترض أن نعود كبشر واعين ومؤمنين بماهية العلم، إلى العلم الذي يقدّم تبريرا لا يزال منطقيا حول هذه الرؤية. فعلم الثقافة والشخصية يرى أن محاولات الإنسان لتبرير ما لا يجد تبريرا منطقيا له، هي مجرد محاولات هروب عشوائي من العقل. يسميها تجنب عدم التأكد Uncertainty Avoidance وهي بحسب هذا العلم: مدى شعور الناس بالتهديد من المواقف غير محددة المعالم، وبالتالي اعتناقهم لمعتقدات وتكوينهم لمؤسسات، في محاولة لتجنب مثل هذه المواقف. فهل نحاول نحن العرب من خلال مجموعة الشكوك وعدم قدرتنا على تصديق أي حقيقة كانت، نحاول الهروب من أنفسنا من خلال مجموعة معتقدات ورؤى وموروثات نحن أكثر الناس كفراً بها؟.