الإشكالية الكبرى التي يقع فيها الإنسان برأيي هي عاطفته. فهي جزء منفعل وعدواني ومظلل وغير عادل ويملك قدرة كبيرة على تشكيل العقل البشري ورؤيته وتقييمه وحكمه على الأشياء. لذلك دائما ما تكون هذه العاطفة الجامحة هي ردة الفعل الأولى لحكمنا على المواقف والأشخاص، ولكوننا نحب أنفسنا بالفطرة سنسقط كل الخطأ على الطرف المقابل ليظهر كل سلوك وكل تصرف له معتديا وظالما، أما ذواتنا فهي دائماً ما تكون البريئة والمجني عليها فنقوم بالهدهدة عليها، هذا النوع من السلوك وردة الفعل الفطرية لا تغذي فينا وفيها سوى الأنانية ولا تضخّم سوى الأنا التي لا تجيد رؤية الآخر ولا القدرة على تقييم الأشياء ومن ثم رؤية الحياة كما هي والتعاطي معها ومع الآخرين بشكل منصف. للخروج من هذا المأزق الحتمي والصعب لا بد برأيي من توجيه هذا الانفلات العاطفي الطبيعي نحو أنفسنا وليس نحو الآخر، فبهذا الشكل لن يكون تأثيره علينا سوى مؤقت لأننا نحب أنفسنا وبالتالي سنتصالح معها ونعيد تقييم الأمور بعقلانية لاحقا بعد زوال زخم العاطفة. هنا نقطة بالغة الأهمية، وهي أن الحديث هنا ليس عن جلد الذات وتقريعها وإنما عن توجيه مؤقت لها، وهذا يتطلب البعد عن مركّبات النقص وفلاتر العقد وهذا أيضا متطلب صعب ولكن مع المحاولة والحوار مع الذات والتعاطي معها بحب وهدوء بالإمكان التخلص منها. هذه الممارسة ليست قسوة بالمعنى المازوشي التي تبدو عليه، ولكنها محاولة دَءوب لتقليص دور العاطفة في فلترتها للمواقف وللآخر وللحياة برمتها. نحن اعتدنا أن ندافع عن أنفسنا أمام الآخرين بضراوة غريبة ! فلماذا هذا الدفاع غير المنطقي في بعض المرّات؟. لأننا اعتدنا أن نقيّم أنفسنا من خلال الآخرين. اعتدنا أن نرى أنفسنا بعيونهم لا بعيوننا وبالتالي نحرص أن ندافع عن هذه الصورة إلى آخر رمق، ليس بالضرورة لنبقى جميلين في عيونهم بقدر ما نحاول أن نجمّل أنفسنا بعيوننا التي ترى من خلالهم، من خلال الصوت المرتدّ لنا منهم حتى وإن كان صوتنا. التعالي على سقطات الحياة والخيبات التي تتركها في نفوسنا نحن البشر مهم وأساسي بالتأكيد، ولكن تبقى طريقة هذا التعالي بالغة الأهمية والخطورة لانعكاسها المباشر على التبعات النفسية لهذه الخيبة في المستقبل. يخلط الكثير منّا بين التعالي وبين الهروب ومن ثم الادعاء بالتعالي وتجاوز الخيبة. التعالي الصحي والمهم الذي أقصده، هو أن نتجاوز خيبتنا ونحن ندرك الأسباب والنتائج وأن نتعايش معها ونرضى بها. بهذا الشكل لن تحدث لها نتائج وتبعات نفسية سيئة في المستقبل، بل على العكس ستكون منطلقا أكثر صحة لتجاربنا المقبلة. التعالي الكذاب هو أن نترك مرارة الخيبة مخفية في صدورنا كأنها النار تحت الرماد، لنكتفي بالادعاء أمام الناس وأمام أنفسنا بأننا أكبر من خيبتنا وانكسارنا، بينما في حقيقة أنفسنا لسنا كذلك. لكل منا تجاربه الفاشلة وسقطاته الشخصية، ويبقى لكل واحد منّا ردة فعله أمام هذا الفشل العابر في حياته. فهناك من يتجاوز فشله راضيا عن نفسه وعن الحياة، وهناك من يشعر باليأس منهما جميعاً. يبقى الأكثر خطورة في الأمر برأيي أن هناك خيطا رفيعا يفرق فيه اليأس عن الرضا في بعض الحالات، بل في غالبها برأيي. فاليأس والرضا وجهان لعملة واحدة من حيث الشعور بالراحة مع الفرق الكبير في كوامن هذه الراحة، ومن هنا يأتي الخلط الكبير بينهما. اليأس: هو نوع من تجاوز انكسار داخلي باعتبار الأحلام والطموحات فقيدا ميئوسا منه، تماما كالتعاطي مع حالة وفاة شخص عزيز وقريب كان وجوده بقدر ما يمثل من سعادة كان يمثّل عبء الخوف عليه، وبالتالي فقده لن يكون سوى ألم مكبوت من جانب وغياب مسؤولية الخوف والاهتمام به من جانب آخر. اليأس هنا وفي ظل طبيعتنا البشرية التي تجيد تغييب وإقصاء مالا ترغب به سيحمل راحة هي أقرب للسكون منها لأي شيء آخر ولكنها راحة وسكون يخفي تحت هدوئه ورضاه الكثير من السخط والغليان الذي يأكل النفس البشرية من الداخل على عكس كل الظواهر الهادئة. الرضا: هو نوع من التصالح مع النفس ومع الواقع. سلام حقيقي مع الذات واقتناع بها بكل معطياتها وظروفها وعوامل نجاحها أو فشلها. هو نوع من الاقتناع الحقيقي عن النفس وحب واحتواء لها بغض النظر عن منظومة الأحلام والطموحات والتطلعات والواقع الذي يعكسها. هو ليس نوعا من تغييب فقد أو التعالي عليه، وإنما هو اقتناع وتصالح مع واقع معيّن سواء كان فيه فقد لحلم أو تحقيق له.