هويدا صالح - مصر رسم: الفنان العالمي بيكاسو لا بأس من ارتكاب الأخطاء .. قالتها له وهو يضبط إيقاع الموسيقى على كونشرتو لديبوسي . كانت قد حضرت مبكرا حتى تتحدث معه قبل التدريب النهائي للعرض . هي تستطيع أن تفصل بين مشاعرها الخاصة والعمل. كانت الفتاة التي تدربها على رقصة كلارا في « كسارة البندق « قد ارتبكت خطأ، فنهرها بشدة، فأسرعت الصغيرة لتخرج من الباب الجانبي للمسرح وتنزوي في بنوار بعيد ترقبهم و تبكي. سمعت المدربة نهنهات الصغيرة، لكنها لم تعرف مصدر الصوت . كان يدرب الفتى الذي سيقوم بدور الأمير، كسارة البندق، وعيناه تتابعان وجهها المتوتر، وتتبعها لصوت الصغيرة الباكي. ترك يد الفتى الذي كان يدربه على رقصة الأداجو وأشار لها على البنوار الجانبي . قطعت السلالم الضيقة التي تبدأ من جانب المسرح وتتصاعد حتى البنوار الأخير حيث الصغيرة تنكمش في الكرسي وتبكي. نظرت إليها بشفقة ومدت يدها، ترددت البنت قبل أن تلمس أصابعها المرتعشة يد المدربة وتقوم. توبخها بحب على انفعالها المبالغ فيه وتقول لها : لا بأس من ارتكاب الأخطاء .. المهم ألا نكررها. قطعت المسافة الفاصلة بين البناوير والمسرح في خطوات راقصة والفتاة تتبعها. حين اقتربت ترك التدريب وهمس لها : ممكن نتكلم ؟ دفعت الصغيرة إلى مجاميع الصغار التي تستعد للقيام بأدوار الدمى، وذهبت إليه. هو يصر على أن يضغط عليها كي يفتح موضوعا قد أغلقته تماما منذ شهور. لم تستطع أن تتحمل انفعالاته المفاجأة، وما زاد العلاقة تعقيدا أنه يرفض الاعتراف بالأخطاء المتكررة التي يرتكبها . قال لها طبيبها النفسي إن أول خطوة في تعلم الرجل كيف يعطي أكثر هي أن يدرك أنه لا بأس من ارتكاب أخطاء، ولا بأس من أن يفشل، وأنه ليس من الواجب عليه أن يعرف كل الإجابات. لكن إصراره الدائم على أن يكون الأعلى صوتا والأكثر سيطرة يصيبه بالتوتر ولا يترك له فرصة أن يتقبل وجودها المستقل بعيدا عن سيطرته. بدا الأمر لها، وكأنه غير حريص بقدر حرصها على إنجاح تلك العلاقة. كثيرا ما قالت له إنها سعيدة للغاية لكونها معه، حتى ولو كانا فقيرين، فإنها ترغب في أن تكون معه، وأن تقضي أيام عجزها الأخيرة بصحبته. لكن سطوة الأفكار التقليدية على ذهنه تمنعه من أن يكمل علاقته معها بنجاح. قال لها: لماذا تعارضين قراراتي أمام الصغار؟ ردت بابتسامة مشفقة وقالت: هي طفلة ووقوفها على أطراف أصابعها فترة طويلة سبب لها شدا عضليا في ساقها، فهون عليك. تعرف أنه حساس في أن تقع أخطاء على المسرح، خاصة وأن ليلة العرض النهائي قد اقتربت. وتعرف مدى التوتر الذي يصاحب تصرفاته في تلك الأيام، لكن الصغار أيضا مرهقون وخائفون من الفشل. هو يحملهم جميعا فشله معها. هو حساس للشعور بأنه فاشل معها. وهذا ما يجعل من الصعب عليه أن ينصت أحيانا. إنه يريد أن يكون بطلا. وحينما تكون هي خائبة الأمل أو غير سعيدة لأي سبب، يشعر هو بأنه فاشل. وأن ليس مفيدا بما فيه الكفاية تماما. من الصعب عليه أن ينصت لها عندما يكون منفعلا، وهي لن تقضي بقية عمرها تعالج الآثار السلبية لانفعالاته التي تضرها وتضره، بل يصيب الحضور جميعا بالتوتر لمجرد أن يختلف معها. يظهر الشاب الذي يقوم بدور « دروسلماير» متابعا لرحلة كلارا مع الأمير كسارة البندق وهما يركبان قاربا جميلا مسحورا في طريقهما إلى مدينة الحلوى التي بها مختلف أنواع الحلوى المحببة للصغار. جاء الدور على الرقصة الإسبانية التي تمثل الشيكولاتة، فتقدم الفتيان والفتيات، وانسابت الموسيقى الإسبانية برشاقة، وهو يحاول أن يبدو مرحا، ليشجع الراقصين. وحين طالت الرقصة الإسبانية طلبت للصغار راحة حتى يلتقطوا أنفاسهم قبل أن يكملوا رقصات الشعوب، فقد بقيت الرقصة الروسية والصينية و الشرقية. بعدها وضع لحن «فالس» جميلاً وكان من المفترض أن يشارك الأمير كلارا الرقص، فمد إليها يده وطلبها للرقص. اندهشت من طلبه، فهي لم تمارس الرقص منذ سنوات، وكونها مدربة للرقصات لا يعني أن جسدها لديه اللياقة الكاملة للرقص. تشعر أن جسدها قد بدأ يصيبه الوهن، فضحكت بخجل وقالت: لا ينفع .. منذ سنوات لم أرقص أداجو.. وقد اكتفيت بالتدريب. قال بتصميم: اجعلي الموسيقى تحمل جسدك.. اشعري بالخفة وعودي بذاكرة جسدك للوراء. كانت الرقصة هي « فالس الزهور» ورقصاتها الثنائية . يده لاتزال ممتدة، وعيناه تشجعها. ألقت بحذائها جانبا، وسارت إليه على أطراف أصابعها. خشب المسرح بارد تحت قدميها. موسيقى الفالس تعيدها سنوات حيث كانت تهفهف كفراشة رشيقة. الموسيقى تنساب. الجسد الذي ما زال رشيقا يعلو بين يديه. حين ارتفعت يداه بها إلى أعلى أعادت رأسها للوراء، وأغمضت عينيها. يدور بها دورة كاملة على المسرح وجسدها يعلو رأسه، ثم يميل للخلف. تدق أجراس الساعة معلنة الصباح، ومن المقرر أن يختفي الأمير وتبذل كلارا جهدها في البحث عنه. دقات الأجراس تجعله ينزلها في فرح غامر. يصفق الصغار بحماس. يتراجع هو للوراء صانعا بساقيه نصف قوس، ومادا ذراعيه للأمام في تحية مسرحية. فترمقه في ابتسامة عذبة وتصفق، ثم تمد يدها ليمسك بها ويرفعها لأعلى تحية للصغار وللجمهور المفترض.