مستويات الجدل ثلاثة: المراء والنصفة والبوق؛ فأمَّا المراء فهو ما نراه في الاتجاه المعاكس من محاولة كلِّ طرفٍ التغلب على الآخر بأنه على خطأ كامل، وأنَّ الآخر شيطانٌ مريدٌ. وقد نهانا رسول الرحمة عن ذلك فقال من ترك المراء وهو محق بنى الله له ربضاً في الجنة؛ فإذا دخل المرء النقاش فليحترم من أمامه وليستمع له وليعترف له بالحق ولو في جزء من كلامه؛ فكلنا شظايا اختلط فيها الحق بالباطل، أما الحقيقة الحقيقية النهائية فهي عند ذي العزة والجلال. وفي هذا ينقل عن الإمام الشافعي قوله في أمرين: مناقشة الجهلة فيقول؛ ما جادلني جاهل إلا غلبني، وما جادلت عالماً إلا غلبته، والأهم من قوله في ترسيخ مبدأ المناظرات: أنا على حق يحتمل الخطأ وخصمي على باطلٍ يحتمل الصواب. ومنه فإنَّ نوع الجدل الثاني هو النصفة أي الاعتراف للآخر بعد حسن السماع والتبين. وفي هذا نزلت سورة المجادلة عن امرأة يسمع لها النبي وهي تشتكي إليه من سوء معاملة زوجها، وفي هذا أيضاً جدل نوح مع قومه، وفي هذا يأمرنا الله تعالى بأن نناقش الآخرين كما جاء في آخر سورة النحل «ادعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن». ولكن الوصول إلى هذا المستوى الراقي من التعامل بعيداً عنه العرب بقدر بعدهم عن روح التسامح التي غرسها الرحمن في عباده الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما. ذكرت المجلة التونسية (15 – 21) عن المناظرة في الإسلام إنه قال الأول للثاني أناظرك على شروط: ألا تعجب، ولا تغضب، ولا تشغب، ولا تدعي، وألا تأتي بآية على مذهبك فأوَّلتها؛ إلا سمحت لي بمثلها، وأن تؤثر التصادق، وتنقاد للتعارف، وأن يكون دليل كل منا أن يكون الحق نصيبه والرفق معامله. ولكن مثل هذه الأجواء ودَّعناها منذ أيام السندباد البحري. أما نموذج الجدل (البوق) فهو ما نراه في المحطات الفضائية من أبواق أنظمة عربية شتى وهي تحاول أن تكذب وتكذب وتكذب، فتجعل من الكذب هادياً ودليلاً ونوراً وشفيعاً. ونحن نعلم أنَّ من يفتري الكذب الذين لا يؤمنون. إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون. ومنه فقد يزني المؤمن ويخطئ ويسرق ولكنه لا يكذب؛ لأنه مفتاح كل رذيلة، مثل الآلة الحاسبة التي تخرب فنرميها، فمن الصدق يمكن ضبط كل الأخطاء ومع الكذب يفلت كل شيء فيخرب فلا يصلح. قال لي من أثق به النظام السوري يمسك بسبعمائة متظاهر، فيقول منهم 699 إنني كنت خطأ في هذا المكان، ولا علاقة لي بأي مظاهرة واعتراض!