قلّة هم الذين استقطبوا الأنظار في تاريخ الأدب والفكر، كما فعل المفكر الفرنسي جان جاك روسو، وقلّة هم الذين أثاروا هذا الاعجاب الحماسي الذي يصل الى حدّ التقديس، أو الحقد العنيد الذي يتجاوز كل الحدود. كان الوجهاء في عصره يبحثون عنه، ويرجونه كي يستقبلهم في بيته، أو يمشي معهم في نزهاته في الطبيعة. وكان آخرون يتدافعون لرؤيته ماشياً في شوارع باريس، أو جالساً في مقاهيها. ولكن، كيف يمكن تفسير هذه «النجومية» غير المألوفة التي كانت شغلت الناس منذ أن أصدر كتابه الأول «خطاب عن العلوم والفنون» عام 1751، وبعد ان تلاحقت كتبه بعضها وراء بعض، وتزايدت شهرته حتى وصلت الى مستوى شهرة معاصره الفيلسوف فولتير. في الواقع، كان روسو يمثل ظاهرة جديدة انبثقت للمرة الأولى في القرن الثامن عشر، أي في عصر التنوير، والمقصود بها حلول المثقف المتحرر محل المثقف التقليدي (رجل الدين آنذاك)، بصفته قائد الرأي الجديد لعقول الناس وضمائرهم. وكان يمثّل روسو من بين مجايليه أمثال فولتير وديدرو ومونتسكيو الفضيلة والحقيقة، لا بل كان يتفوّق عليهم بالنزاهة الشخصية والأخلاقية العالية. هكذا راح رجال النهضة في بلادنا، قراء كانوا أو مصلحين أو مفكرين أو مترجمين، يستهدون بأفكاره، ومنهم رفاعة الطهطاوي، وفرح أنطون، وعباس محمود العقاد الذي يعتبر روسو الأعظم في عمله الأدبي وعمله التشريعي، من جميع مجايليه. يقول العقاد في ذلك: «روسو أعظم من مونتسكيو لأنه يستمد الشريعة من حياة الانسان، ومونتسكيو يستمدها من نصوص القوانين، وأعظم من فولتير لأنه مبتكر مخلص، وفولتير قليل الابتكار، قليل الاخلاص، وأعظم من ديدرو لأنه تجاوز عصره، وديدرو لم يبرح مستغرقاً فيه». هذا الاستهلال عن روسو مناسبته صدور كتابين عنه باللغة العربية، الأول للباحث الكويتي عقيل يوسف عيدان بعنوان «التنوير في الانسان – شهادة جان جاك روسو» (الدار العربية للعلوم - ناشرون، بيروت) والثاني للباحث التونسي عبد العزيز لبيب الذي دقّق ترجمة بولس غانم في السبعينات لكتاب روسو «خطاب في أصل التفاوت وفي أسسه بين البشر» والذي تنشره اليوم المنظمة العربية للترجمة (بيروت). يعتبر الباحث الكويتي عقيل يوسف عيدان أن حداثة روسو تقوم على قاعدة فكرية قوامها الجهد والتوتر والصراع. الجهد النابع من تأثر روسو بالأحداث العلمية والتاريخية والجغرافية، والتوتر المنبعث من معاناته الشخصية والنفسية، والصراع القائم بينه وبين قضايا الأخلاق والدين والسياسة والاجتماع. وبذلك حاول هدم الايديولوجية الدوغمائية التي تتمركز في فهم الناس لحدّ السلطة، والحرية، والمجتمع، ولحقوقهم في العدالة والمساواة، وبذلك أشعل رحى حرب فكرية في فرنسا، وصلت أصداؤها الى أوروبا كلها، من خلال انتقاده للتيارات الدينية والفكرية والفلسفية والثقافية في عصره، ومنها تيار الأنسنة القائم على الميراث الأغريقي الروماني الذي دجّن الانسان، والتيار الديني المتزمت الذي كان وراء الكثير من الكوارث التي أصابت الانسانية. وفي كلام آخر أعدّ روسو من خلال كتاباته ومراسلاته ومداخلاته الخريطة التي رسمت الطريق المؤدية الى الثورة الفرنسية عام 1789، كما استرشد الدستور الأميركي عام 1787 بالكثير من أفكاره، أضف الى ذلك، أن واضعي شرعة حقوق الانسان استوحوا معظم أفكاره التي أودعها كتابه «العقد الاجتماعي»، لا سيما الفصول التي تتعلق بحرية البشر وحقوقهم، والمساواة في ما بينهم. صبّ روسو اهتمامه لايجاد صيغة حضارية تعيد الى الانسان حريته وكرامته. ولما لم يكن لأي إنسان حقّ طبيعي في السيطرة على إنسان آخر، فان الانسان الفرد يصبح عضواً حراً في الجماعة عبر «العقد الإجتماعي»، وهو عهد يقطعه تجاه الجماعة كافة. وإذ يهب الفرد نفسه للجماعة، فهو لا يهبها لأحد بعينه، وإذ يخضع للإرادة العامة، أي للقانون الذي وضعه لنفسه، يبقى تام الحرية، ومن هنا جاء قول روسو: «إن طاعة القانون الذي رسمه المرء لنفسه هي الحرية». هذه الأفكار عن الحرية عند روسو هي التي حملته على اعتبار تفاوت المراتب بين الناس مشروطاً بالمحيط الطبيعي مثل بقية الكائنات الحيّة، على خلاف النظرة المثالية التي كانت تذهب الى القول بأن الانسان كائن يتعالى على الشروط الأساسية للحياة. أوجد روسو بنظرته هذه أفقاً معرفياً جديداً محوره الرئيس هو الانسان لا غير على ما يذكر محقٌّق كتاب روسو «خطاب في أصل التفاوت وفي أسسه بين البشر» التونسي عبد العزيز لبيب. إن الانتقال من النظرة القديمة للانسان الى النظرة الروسّوية هو الذي يشكل جوهر الحداثة، في ما يعنيه من أن الانسان يمكن أن يتغيّر نحو الأفضل إذا ما تغيّرت ظروفه وتحسنّت. وبالتالي فلا توجد طبيعة نهائية للأنسان تحكم عليه مسبقاً بأنه سيصبح خيّراً أو شرّيراً، وإنما الذي يقرّر مصيره هو الظروف الايجابية أو السلبية التي يجد نفسه فيها. وهنا يقول لنا روسو «إن اللامساواة، أو التفاوت الهائل بين الأغنياء والفقراء في المجتمع هو سبب كل الاضطرابات والانحرافات، والجرائم والشرور. ولو أن المجتمع أيّ مجتمع، وفّر لكل إنسان حاجاته الأساسيّة لاختفت الجرائم من ساحته، أو لتقوضّت الى حدّ كبير». واضح إذاً، أن مسألة التفاوت بين الغني والفقير تحدّ من المساواة بين الناس. ويضيف روسو في هذا الصدد: «إنه لمناف لقانون الطبيعة بجلاء... أن تنتشي حفنة من الناس بالكماليات في حين تفتفر الأكثرية الجائعة الى الضروريات «لا بد إذاً من تغيير الأوضاع الاجتماعية الى الأفضل، نحو المزيد من العدالة الانسانية. لم يتوقّف روسو في كتاباته عند أصل التفاوت، أو اللامساواة بين الناس، ولا اكتفى بتوضيح العقد الاجتماعي الذي يجمع بين الناس، وإنما تناول قضايا تتعلّق بأهداف التربية والتعليم، وأخرى تتعلّق بالأدب والفنون. يؤكد روسو في كتابه «إميل» إن هدف التربية والتعليم ليس تعلّم العلم، وإنما تعلّم اكتساب العلم، وأن المبادئ المثالية الواجب مراعاتها، أن يولى التلميذ تربية طبيعية، أي تربية تحصّنه لأطول وقت ممكن ضدّ فساد العالم، وتقوم على مبادئ الخير والسعادة والبراءة التي كان روسو يعتقد أن البشر جبلوا عليها. في مجال آخر دشّن روسو في كتابيه «الاعترافات» و «جولي أو هيلويز الجديدة» عصراً أدبياً جديداً في أوروبا. ففي «الاعترافات» (كان ترجمه الى العربية في الستينات الكاتب اللبناني خليل رامز سركيس، ترجمة بديعة) بما هو سيرة ذاتيّة، كشف صادق، وبلا أدنى خجل لمكنون أفكار روسو وتجاربه ونزعاته. وفي هذا الشأن يذهب أحد النقاد الفرنسيين الى القول إن نهاية القرن الثامن عشر، هو بداية فنّ السيرة الذي دشّنه روسو في الاعترافات. لا بل ان الجميع أراد الاقتداء به، وانصرفوا الى كتابة تاريخ حياتهم لأن الطفل، على قول الشاعر الانكليزي وليم وردزورث هو والد الانسان. أما روايته «جولي أو هيلويز الجديدة» فأحدث روسو بنشرها هزّة إذ لم تكن هناك رواية أخرى لها التأثير نفسه الذي لاقته هذه الرواية. فقد قامت المكتبات منذ صدورها عام 1761 باعارتها بالساعات. والرواية تحكي حكاية حبّ صعب بين معلّم شاب وابنة أحد البارونات. وقد كتبها روسو في لغة المشاعر الصافية، والعواطف المنزّهة، كما كتبها بصيغة الأسئلة حول حياة الانسان، ومعنى الوجود وحول الكون برمّته. وبذلك حقّق في هذه الرواية المعادلة الصعبة التي اختزلها الكاتب البريطاني كولن ولسن بقوله: «إن روسو في روايته «جولي» علّم أوروبا كيف تفكّر». إن قراءة كتب روسو مكلفة على صعيد الوعي. ففي قراءتنا إياها تتوسع معرفتنا بما كنا نشتاق أن نعلم المزيد عنه، وتحملنا على تعليق الحكم، ومراجعة الحساب، وإعادة النظر في ما كنّا نظن أنّنا نعرفه عن الفرد والعائلة والمجتمع والتربية والآداب، وصولاً الى الحكومة والسلطة.