لماذا لا يتوقف المطر الليلة؟ رغم أنني لن أفعل شيئاً مفيداً للكونِ بعد توقفه! لا وقتَ نخبئ فيه فائض خيباتنا، ولا روزنامة نؤبجد بها أولويات الشك وما يدور في ذهن الحتمي من مراد. في نقطةٍ ما يسميها العلماء صفراً ونقول إنها اللاشيء.. يغدو من المستحيل أن نقتنع بالأشياء على مسمياتها المعهودة..وتمسي كل محاولة لاصطياد الفكرة وقوعا في شركٍ مجازي آخر ... لا يقودك إلى نهاية الدلالة بقدر ما يعود بك إلى أولك السحيق. مجروحة من السؤال الأزلي القديم، أنظرُ إلى تقشف القمر وزهد الليلِ في نجمة تؤثثه بالوعد ويفرّغها من البعيد.. أنظرُ إلى المساء ولا أتأكد أنه المساء لمجرّد أنني أضيء فيه.. فبإمكانِ الموجودات دائماً ألا تكون نفسها.. كما بإمكانها أن تكون على النقيض.. كأن يجرب الليل صوته على لساني.. وكأن تمر بي ندفة غيم ولا تخرج من ظهري أبداً..كأن أفتح روحي على حافة الجدار من الخارجِ دون أن أكون شرفةً أو نافذةً أو بناية غير مكتملة.. دون أن أفقد هويتي الأصلية في كوني من دم. ماذا يمكن أن يحدث بعد الآن؟ بعد أن تقف تماماً إلى جانب ذاتك.. لا أنت هي تماماً.. ولا هي على وجه الدقة أنت.. كتفك الأيمن ملتصقٌ بكتفها الأيسر..ولكما نفسُ الهيئةِ والخواص.. في المكانِ ذاته وفي نفس الزمان..تتشاركان النظرة والرؤية والغياب.. وتتفقان على عدمِ السؤال – في خضّم الوهم – من جدواه.. يمكنكَما في لحظاتٍ حميمية نادرة كهذا المساء أن تشّفا أكثر لتكونَ أبيض وتكون بلورة.. أن تتساميا أكثر لتكونَ صمتاً مخثراً في الهواء وتكون هي نسمة باردة على خد ليلٍ مجهد.. يمكنكَ أن تغتاب الكون وتعطي من تشاء منه.... ويمكنها أن تكونَ ... يتجاوزك في المشيئة.. يمكنكما تبادل الأدوار دون أدنى حساسية أو قلق.. يمكنكَ أن تحبها ويمكنها أن تذوب فيك.. أو لنقل إنكما تملكان كل صفات البشرِ والملائكة والشياطين.. وقادرانِ على رؤيةِ الزهرةِ قبل أن يذوب عن الأرض الجليد.. قادرانِ معاً على رمي حجر في بحيرة راكدة.. دون أن يتحول الحجر إلى جرح ودون أن تستيقظ أجفان الماء على وقع القتيل.. قادرٌ أنتَ معها على تعليق ماسة لازوردية على صدر السماء.. في كل ليلةٍ تخض الماسة نفسها حتى تمسي نجمة.. وفي مكانٍ آخر من المساء نفسه تحت هذا المشهدِ تماما تنصهر النجمة مرة أخرى على خد حسناء.. لا تعرف إلى هذه اللحظة ما الذي يبكيها وما الذي يؤرقها وما الذي يحزنها بالضبط؟ حين تكونان معاً.. تركضُ في عروق الليل كتائب الخيول.. وتُسمع أصوات طبول وخفقان راية.. حين تكونان معاً.. يتنفسُ الهواء المحشور بين الغيومِ و تُشتمُ رائحة نعناعٍ وعبق طينٍ ولعاب مطر.. حين تخلو بها.. ينسحب النهار من كل ألوانه، ويترك لليلِ أن يعيد ترتيب النواميس وفق ما تشاء الرغبة وبقدرِ ما يُسمح من تجلٍ وحنين.. حين تنفرد بها.. تقولُ سنبلةٌ متكبّرة لريحٍ عاشق: «ما حاجتي للميلان ما دمتُ أنثى؟»..يسترق الجبل السمع ويقول للوردةِ الخجلى: «كاشتهائي الانهيار عند قدميك وأنا رجل».. حين تكون معها.. تمارسُ الحواس عزلتها الليلية عن ضجيج المعتاد، وينأى الداخل بنفسه عن الرد على الخارج.. الخارج الذي يرفع صوته كل مرة بلا سبب وبلا حب. حين تكون معها... تعودُ الفروع إلى أصولها.. لا لتنهي حكاية الامتداد إلى الضوء.. بل لتحدث الأغصانُ جدتها الشجرة عن دهشة الجهات، وإغراء البعيد!.. حين تكون معها.. يجدّف النهر في نفسه حتى لا يغرق إلى الخلف، ويهجسُ البحر بالفكرة إثر الفكرة.. عوضاً عن مد وجزر قصير. حين تكون معها.. يجلسُ شاعرٌ على حافة اللغة.. يتأمل الدواوين الغارقة في وسط البحور.. يناهز الشمس المصقولة بالإيحاء..يبصرُ السماء وهي تحاول بجلالها التحقير من شأن الأرض.. يدحرج قدميه في حيزٍ يسميه البلاغيون مجازاً هواء.. ويكتب في نفسه: «كم من الدلالات لا ألفاظ لها؟ كم من جمالٍ لم يجد بعد نفسه؟ كم من معنىً يوشكُ أن يتقيح دون أن يكترث لاعتمالاته أحد؟ كم صرخة وسطت منتصف الحلق بين الألفِ والباء.. بين المعنى واللا معنى.. دون أن يدلها على طريق الفم أحد.. فلا هي عادت صمتاً ولا هي استحالت صوتاً..ولا جنبها الصدى أذية الحياد! تنزل امرأة من حجرتها إلى الحديقة وهي تتحسس الطريقَ إلى داخلها.. تغلق نفسها خلفها.. تضع المفتاح في جسدها.. وتتهاوى على أقرب كرسي خشبي صدئ.. تعيد استدارة لثامها ومعه تعيد تدوير أيامها.. تخلع عنها الخوف.. وتضعه في رواية بجانبها.. ترش قليلاً من العطر لتهدئ به من روعِ العفن المهتاج بداخلها.. تنظرُ إلى عمارةٍ لم تكتمل منذ سنتين، ترتفع بنايتها لتقلّص مساحة الفضاء، ولترفع ذقن الليلِ إلى أقصاه! «كل هذه النجومِ.. لكن الليل ما زال يحمل نفس الاسم ليلاً.. وليس لؤلؤياً» هكذا تقولُ الأنثى التي ذهبت لتعزية النجمة في نفسها. في غمرة التمازجِ مع شيء يشبهها.. حضرَ الغريب إلى أرضه الأولى في زيارة لا تتجاوز دمعتين.. لا ليناشد غريمه العودة، لكن ليأخذ معه آخره.. رفعت المرأة طرف عينها إلى تلك الشقة.. رأت حجرة نومها مضاءة أكثر مما يلزم.. ومن خلف النافذة الزجاجية شيءٌ ما يلوح على هيئة امرأة.. وضعت القلبَ جانباً وسألت الرواية التي لم تقرأها بعد: «من هناكَ وأنا هنا؟» * السعودية