"في موقع ما من الاشتعال"، عنوان الأعمال الكاملة، شعراً وبحثاً، للشاعر والباحث اللبناني باللغة الفرنسية صلاح ستيتية، وقد صدرت مؤخراً في مجلّد واحد عن منشورات "روبير لافون" الباريسية وذلك بمناسبة بلوغه الثمانين من العمر. وكانت الدار قد أصدرت عام 2006 المجموعة الكاملة لجبران خليل جبران. يحتوي الكتاب، بالإضافة إلى مقدّمة باذخة بعنوان "صلاح ستيتيّة على ضفّته" وتحمل توقيع الباحث والأكاديمي الفرنسي بيار برونيل، مدخلاً بقلم ستيتية نفسه وعنوانه: "حياة رجل"، ويتوقّف فيه بصيغة الاعترافات عند محطات أساسية من حياته وأدبه، وخصوصاً علاقته مع الثقافة واللغة الفرنسيتين. في كلمة أخيرة بدت على شكل وصيّة، قال ستيتية إنّ "الشعر كان دائماً المعادل لحياته، وهو الذي يعطي أجنحة للحياة، أي أنه يعطيها مدى وتوجُّهاً (في الاتجاهات كلّها، بالطبع)، ويعطيها معنى (المعاني الممكنة كلّها)... الكلمة تضيء مصباحا"ً. ويختم الكاتب قائلاً: "شاخ الشاعر". وتساءل: "هل تكلّمتُ فعلاً عن مصباح؟. يقول الكاتب الفرنسي جوزيف جوبير "نهاية الحياة تحمل معها مصباحها". يقسم الكتاب إلى قسمين، الأول مخصص للأعمال الشعرية ويتضمّن المجموعات التالية: "الماء البارد المحروس"، "أجزاء: قصيدة"، "تَعاكُس الشجرة والصمت"، "الكائن الدمية"، "الجهة الأخرى المشتعلة للأكثر صفاء". أما القسم المخصص للبحث فيحتوي على الكتب التالية: "حملة النار وأبحاث أخرى"، "أور في الشعر"، "آرثور رامبو"، "مالارميه باستثناء الأزرق"، "الخمر الصوفي"، "دفاتر المتأمِّل"، "السفر إلى حلب"، "قراءة امرأة"، وهناك أيضاً نصوص وأبحاث غير منشورة قبل اليوم نشرت هنا تحت عنوان: "الطفيليّات وغير المحتمَل". كتبَ تصدير القسمين الكاتب الفرنسي ماكسيم دل فيول. صلاح ستيتية الذي كان كذلك سفيراً لبلاده لسنوات طويلة، هو شاعر الضفّتين، ذلك أنّ كتاباته تحمل في ذاتها وهج الشرق ولا تفتأ، في الوقت نفسه، تنظر نحو الغرب، وهي تتأرجح بين الحداثة والموروث التي تعيد إنتاجه باستمرار. إنها مسكونة بأصوات بعض كبار ممثلي الأدب الفرنسي من بودلير إلى السورياليين، كما تنهل من الثقافة الإسلامية وشعرائها ومتصوّفيها. على الغلاف الأخير للأعمال الكاملة، كتب الناشر الفرنسي: "صلاح ستيتية، مثل بيكيت، إيونسكو، جابيس أو سيوران، أحد معلّمي لغتنا ومن الذين أعادوا إحياءها بحبّ". مختارات تمّ نقلها عن الفرنسية: ذات مساء ذات مساء من نار وعشب جنونٌ لامسَ العينين وجهها حاشية من الدمع والأهداب تُمنَح لملاك البرد الريشة شعلة مفتوحة تمضي ينحلّ وجهها في الرماد لدى وصولها إلى المرفأ المشتعل. نعاس الثلج -1- مسلّة نائمة مظلّلة بالثلج في الريح الخاوية حيث يتعرّى البرد كظلّ رجل مظلَّل بالثلج ومتوَّج ببقايا البرد بُخار مظلَّل مختصر بالثلج في هذا البلد المشتعل فجأة بالبرد هذا الرجل، الذي سيكون، سيأتي ليموت في ثنيّة وردة من ورود البرد وقد أعطى اسمه للثلوجِ المولودة من الأرض، العائدة إليها كمثلِ ماء ليليّ تَقَبّله القلب هذا الرجل الذي أعطى في أقصى النوم جسده، جسد الحبّ، ونسيانه قليلاً من الثلج الحيّ الخائف من البرد هذا الرجل الذي منح أعضاءه للريح ها هو فارس العري بعدما تآخى وحصانه وشرب الاثنان حليب الريح نفسه وهو من نجم ضائع وحليب امرأة فقيرة شديدة الفقر ومقيمة في الحلم تجلس بيدين محروقتين لملامسة برد العري (...) -2- لكن المُطلَق، مطلَق الثلج شعلة عالقة بحصان هو الأصفى بين أحصنة الأرض تقبله الحدائق، الغيوم التي هي أشكال حياة تحترق مساءً في مسارح الهواء حتى لا يعود هناك إلاّ الليل الحيّ وإذا الحصان والشجرة كلاهما يحمل الإشارة التي تومض في التقلُّص والتجرُّد الموعود ولا يبقى منهما شيء لكن أصفى ما في الشجرة سيتشكّل في النفس وتكسوه ليلاً الغيومُ أزهارها وثمارها معاً هي قليل من أبدية تصبح نهاراً إنهما معاً عند هذا الجانب من النهار مع الأبدية كحصان يشرب، جرعةً واحدة، أبديّة النهارِ الناعمة والحاضرة في الشجرة كجرّةٍ محطّمة ومحترقة حيّةً أصبحت امرأة لكنّها تلتهب ولكثرة ما تقيم في الصفاء فهي حديقة وثمارها كلّها ثلج كحديقة من ثلج وثمارها كلّها هي هذه المرأة التي لطّفتها الشعلة تمنح بيديها الاثنتين هِبَة الثلج لِعذابها، للبرد يلمع قاطعاً كنفاذ نجم تكاد تجتازه غيمةُ فِكرٍ تكاد تعكسها هذه المرأة التي يعذّبها العالم إنها تحت سحابة ما لا يُعرَف امرأة وجُرح ومجروحة تتأوّه كحمامة يفتنها تمهُّلُ احتراقِ كيانها الذي لا يخمد، لا أحد هو، وهو قليل من الموت مقابل المرأة الحيّة النائمة المحروقة بالصور نائمة هي، وهي أعيدت إلى بلد الثلج مع كمنجاتها الطويلة، كمنجات الشفافية التي عتّمَها عبورُ الغيوم وعِنبها عِنبُ المطلَق جسدها جسد المرأة حمامة مكتملة ووجهها كثلج ملتهب يمنحه الليل كلّه للّيل -3- وعنبها غسله البحر وغسله الزبد وأحرقه كجذرِ ماءٍ في فحمٍ هو مسرح الظلّ إنه رماد خفيف إنه حيّ في غبار الأحياء وعيونهم تحت عذوبة تخلقهم رماداً مسرح عظام، جسد متاهة جميل يضيئه مصباحُ تُرُنجانٍ في مرآة الأرض، المتلألئة حيث تشتعل شجرة مشمسة بالزمن وتصبح عنف حمامة فوق حبّ، وجهه سلاحٌ يستريح في الثلج جسد جميل، يا للجسد الموجود عالياً عالياً في نور الشجرة يتوسّل وجهُك المهجور أن يشعل العشب فوقه حتى تأتي الأرض بعد الثلج ويلتمع بذارها من نار لا تحبّ إلاّ الأكثر التهاباً، الطير الشاهق عصفور غامض تحت غيمة التوهّج مطوّقاً بهشاشة اللبلاب الذي يلتهب وحده أعلى من الموت قرب مصباح – أُغرِق في ظلامِ النهار- بطيء، ولكثرة بطء اشتعاله في الروح كلّ حجر إليه إشارة وفَأْل ليكن كلّ حجر هذا القليل من الأرض الخارجة من الماء ككتِف تتوهّج توهّج المرأة وبطنها الأنثى لحمها المجروح يفتن الروح كمثل نجم تائه في أنهرِ أرضٍ أخرى قديمة حيث سيُثقَب بالحجارة أولئك الذاهبون ما وراء القمح كمثلِ نجم تائه في الأنهر هي هذه المرأة التي يشير إليها العصفور مع الدم الذي يسيل منها ويجعلها جريحة القصب حجر غامض شعلة طويلة قائمة في البرد حتى يتحوّل رجال الدم حلماً إنها هنا صديقة النار، ومعها ظلّ بلا غبار مع يدين ووجهها ابن الثلج كشعلة نائمة في الشعلة تمرّ بجسدها المظلَّل بالدم بين النهر والنهر الآخر في الذي هو موت وبَيت -4- وأيّ ثلج؟ هنا، في البيت لا توجد إلاّ فكرة الثلج والرجل أيضاً مع ظلّه وحده والنهر الكبير في غرفته: يراه يلتمع بعيداً كمصباح مسرح... الرجل جالس في مغسله يساعده من يتأمّل، يناوله ثمرة يأخذ ثمرتين لحصانه ويخرج ولا حصان أمام بابه، لكن فجأة كألف قيثارة هائلة الشعلة مع الشعلة مع المطر. ما نعرِف العنيدة الجميلة، الأكباش الكبيرة المتوحّشة أتذكّر خطواتها الخفيفة على القمم الوعرة للكلام حيث يأتي النهار بعد النهار ويأتي الليل يعانق قسوة العالم والسماء الكاوِيَة، بِخشب حيّ، لياليها والوجوه يا أيّها الحبّ الساخر إلى أين تقودُ ظلالك السعيدة بتدفّق الريح في الوادي وادي بلاد الطفولة ودوائر أشجار تفّاحها عظيم هو جوعي بين هذه الألبان المنتهية أوطان ضائعة لهذا الطفل الأعمى الضائع المنتظر صعود النُّسغ في جسده كم كان يرغب لو ينسى ذلك كلّه وينظّف أوراق الحديقة أمام بابه الصافي وهو يقول لي: لا تقُل ما لا تعرف وما تعرفه قل منه القليل. خطوبة النداوة عصافيري، أولادي، لماذا هذا الجبل هو خطيب النداوة ؟ مع النجمة الأعلى من الخريف كمِثل عنكبوت شفّاف وماس الأراضي المحروثة أيّها القمح، يا قمح الورود الحُمر شمسٌ هائلة تهبط فوق رؤوسنا كوَبيل من أغصان دقيقة ورواسب كلسيّة عنيفة لتساعدنا على النوم في أحلامنا. ها هو المُطلَق، التِّبن والفصول، من عام إلى آخر. المرأة وظلّها، يدها على كَبْش القرون. صامتة هي - هو : صامت – تحت المنحدرات. الكتابُ كُتِب، انتهى، والملاكُ طوى الجبلَ وفي النهار البائد فقط، ثمّة رَجُل يقفُ في رشاقة الشجَر. إشارات ثمّة عطش في الماء. أن تكون وحدك، يعني أنك تلعب مع بنات أفكارك. *** الشعر هو غير المُدرَك وقد أصبح غير مرئي. *** أن تدفن النار هو أن تحلم بالماء. *** الفتاة الأجمل في المنزل هي المياه. *** الشمس، تلك الدمعة الأبدية. *** إذا أردتَ ألاّ تهتزّ الأرض تحتك بعد اليوم، تصرّف وكأنّك غير متيقّن من شيء. *** من الرمل ينسرب الإنسان. من الإنسان ينسرب الرمل. *** الموت يجعلنا أجداداً. الطفل الميت هو والد أبيه الحيّ. *** يطبق المنزل جفنيه في ذكرى شجرة. *** بين الرجل وفكرته، يوجد جسد ممدّد. الأفكار المجرّدة من الجسد ليست شيئاً على الإطلاق. *** الحياة تولد من الشعر. لا أطفال للموت. *** تحبّنا الكلمات أكثر ممّا نحبّها نحن. النتاج الكبير يُقرأ ويُنسى. تماماً كما نتنفّس وننسى أنّنا نتنفّس. *** الشمس تقتفي أثرنا والريح تمحو الأثر. *** اللون الأبيض هو الأكثر عبوراً. الأكثر روحانيّة. *** يحوط الإنسان نفسه بالساعات هرباً من الوقت. الشعر اشتعالُ المظاهر. *** أن تقتل بصمت. الزمان، مهما بدا منه، صامت. *** ينبغي العمل بسرعة لأنّ الموت يعمل بسرعة. ينبغي العمل بأفضل صورة ممكنة لأنّ الموت يعمل بأفضل صورة ممكنة. *** ما نحفظه من الحياة يمكن اختصاره بعبارات قليلة. البعض منّا يمضي الوقت في البحث عنها. الآخرون، من وراء أكتاف الأوائل، ينقلونها ويعاودون نقلها. *** ألمٌ هو اسمُ الوردة. *** نسكن طيفنا حتّى لا يسكننا. *** هذا الشيء المرتبِك في القلب هو الوردة. هذا الشيء البسيط في النفس هو عطر الوردة. *** النتاج الكبير ساذج لأنّ الحياة ساذجة. عالِم هو النتاج الكبير لأن الحياة عالمة. من هنا إلى هناك، العلم والسذاجة، تمضي نحلةُ اللغة. *** الأمل واليأس هما من بحر وزبد. *** حبّ البعض يحرمنا من حبّ البعض الآخر. حقدُ البعض يقوّي ضدّنا حقدَ البعض الآخر. *** الهيكل العظمي هو العبارة الوحيدة المنظّمة. *** أمام هذه العبارة الصافية تتلعثم الحياة. *** المنزل الأجمل هو المسكون أيضاً من الخارج. *** القلب في الصدر : نمرٌ في قفص. ثمّة حاجة إلى الهواء لإضاءة الغرفة. *** ضع قناعك ثانيةً لأتعرّف إليك. *** من نافذة الغرفة الكونيّة نراقبُ الوردة التي تراقبنا. *** نفاجئ الحياة. الموت يفاجئنا ونحن في أقصى الدهشة. *** عنّا تبكي الدموع. *** الوردة، تعبنا هي. *** إذا بكيت عليّ، أجفّف دمعي. *** أسلحة مرئيّة. معارك غير مرئيّة. *** يقول النتاج الكبير: قدريّة هي الأشياء كلّها. ليس ثمّة نتاج كبير حرّ. نيتشه الذي أراد أن يكون حراً كبّل نفسه بالجنون. *** الكتابة عند حدّ الفَيض والنهر هي الطريقة الوحيدة للكتابة. ما دونها صيد بالصنّارة. *** كلّ منّا بدمعتِه السريّة يسقي زهرة لا يعرفها سواه. *** لا شيء في موضعه. كل شيء ينبغي أن يُعاد إلى وطنه. لكن إلى أين؟ *** الكتّاب الصغار يكتبون أمام الآخرين فيما الكبار يكتبون ضدّ أنفسهم. *** أن نفكّر قطعة وراء قطعة كما لو أنّنا نتعرّى. حتّى عدم الحياء الأخير. صلاح ستيتيه