ينتمي الطيرُ والقرد وغيرهما إلى عالم الله الحرّ الذي لا يخضعُ لضابط الجوازات ولا أختام القنصليات .. وتلكم عينُ الحرّيّة التي نتشدّقُ بها كثيرا.. الكونُ مكانٌ رحبٌ لا يليق بمخلوقٍ تضييقه، غير أن الإنسان هو الكائنُ الوحيدُ الذي يسعى إلى حصاره! الانتماء الأسريّ فطرة، وانتماء الفرد إلى العشيرة والقبيلة والأمة والمكان كذلك، وكل هذه من الحقوق التي فطَرَها الله فينا وإنْ حاربَنا عليه منْ أسموا أنفسهمْ حقوقيين! يخطئُ -دون وعي- من يرفض القبليّة كانتماء، كما يخطئُ -ببلاهة- من يقتلُ انتماءك إلى أهلك وعشيرتك وأسرتك وقومك حتى لو كانَ ممّنْ يدّعي أو يرى أنه حقوقيّ ومتمدّن! هذه قطعيات لا يمكن القارئ الكريم الاعتراض عليها، سوى من وصلوا في مفاهيمهم الحضارية التي تخصهم إلى درجة عدم الانتماء الأسريّ والعائليّ، وفي هذه الحالة ندخلُ إلى قضايا بنيوية اجتماعية أخرى. عندها لنا استخدام قانون (هذا فراقُ بيني وبينك). الدرجة الأعلى -إنسانيا- هو الانتماء الوطني المكانيّ و(الأنثروبيولوجيّ). فقد كانت الهوية عبر تاريخ البشر لا تُكتبُ توثيقياّ، ومن هنا كانت الانتماءات تابعة للغالب المهيمن، فنقول: فلانٌ عباّسيّ وذاك أمويّ، وهذا عثمانيّ ..إلخ . غير أن مستوى الوعي البشريّ وصل إلى درجة علميّة واعية لم تعدْ تستطيعُ قبول هذا النوع من الانتماءات، وصارت الانتماءات تتّجه إلى المكان أو إلى (الأنثروبيولوجيا) العامة كهويّة، حتى أصبح العالم كله -بلا استثناء- ينقسم إلى دول تنتمي كل منها إلى المكان. ولنا النظرُ إلى تسميات (هويات) بعض الدول التي لم يكنْ لها وجود بنفس المسمى عبر التاريخ، كيف أوجَدَتْ لها مع تأسيسها انتماءً يتّصلُ بالمكان، كالأردن والبحرين وتونس واليمن -بمصطلحه السياسي الحالي- مثلا. وما أعلمُهُ أنّ الملك عبدالعزيز (رحمه الله) قد اعتمد في بدايات توحيد المملكة -قبل التعليم فيها- على مستشارين من الشام وغيرها كانوا موظفين مجرّدينَ من فكرةِ أهمّيّةِ الهويّة وتبعاتها المستقبليّة. حيثُ كان المتعلمون الضالعون من أبناء الجزيرة من الندرة حدّ اضطراره على الاعتماد على أولئك، وأنه -بواسطتهم- بحثَ بحكمةٍ الأسماء الممكنة للمملكة الناشئة، من (مملكة نجد وملحقاتها- ثم مملكة الحجاز ونجد وملحقاتها.. حتى المملكة العربية السعودية)، وبالتالي وصلت هويّة المكان إلى تسميتها الحديثة. ونظرا إلى ما أُدركُهُ في قلب وقاعدة هذا الشعب المحبّ الوفيّ من الرغبة النادرة من نوعها في هذا العالم في شدةِ وقوة وترسيخ الانتماء إلى مكانٍ هو -كما نراه- من أعرق الأماكن كمنبع للحضارة العربية والإسلامية ولم يزل، ويجبُ أنْ يظل، فإنه مستحقّ لهوية تنتمي إلى جزيرة العرب، وتستحقّ بهذا ريادة عالمية بما تملكه من عبقٍ تاريخيّ عربياّ وإسلاميا ودوليا. ومماّ وجدناه من خلالِ تجاربنا الميدانية والنظرية: أنّ الانتماءَ إلى المكان هو أشدّ ربطا وتوظيفا حقيقيا للمواطن بوطنه، كما أننا وجدْنا من تجاربنا أنّ أهم أسباب ضعفِ الوازع الوطنيّ لدينا هو شعور الأطفال والكبار بعدم انتمائهم إلى المكان مماّ أسهمَ في ضعفِ شعورهم الوطني، وزاد من الانتماءات القبلية كتعويض نفسي عن فقدان الانتماء العام. وعليه فإنّ نظرةً إصلاحيةً شمولية إلى مفهوم الهويّة يمكن أن تخطو بكياننا خطوة قافزة نحو تأسيس وطنية جمعيّةٍ راسخةٍ رسوخ الأرض وتاريخها، ولا أجدُ في النظرات الإصلاحيّة غير الجوهريّة -غير ترسيخ هوية المكان- ما يمكنُ أن يغرسَ في أجيالنا مفهوم الوطنيّة التي تكفي لمنح الشّحنة القومية والوطنية اللائقة بهذا الوطن. ولقدْ جرّبتُ كثيرا مع بعض زملائي المعلمين ومديري المدارس الراغبين في ترسيخ قوة الانتماء الوطني -إبان عملي في مجال التعليم- تدريبَ طلابِنا على الارتباط بالوطن بشكل مُقْنعٍ عنْ طريق النشيدِ الوطنيّ وأدائهِ بشكلٍ لائقِ من الجمال الفنّيّ، غيرَ أننا بُؤْنا بالفشل، بسبب تفسيراتٍ وصلتْ إلى الطلابِ مسبقاً بأنهُ لا وطنَ للمسلم، وأنّ وطنهُ الوحيد هي الأرض بما رحُبَتْ.. فطلبتُ -حينذاك- من إدارةِ التعليم التي أتْبَعُها الرفعَ إلى وزارة (المعارف) بطلب تعميم (شريط كاسيت) يحوي موسيقى النشيد الوطني، عله يدفعُ تلاميذنا وصغارنا إلى الحماس لأداء نشيدٍ يرمزُ إلى وطن، فتجاهلت الإدارةُ طلبي هذا لمخالفته عُرْفهم الشرعيّ عن الموسيقى وأنّ وطنَ المسلمِ لا حدودَ ولا مكانَ له (وأنا معهمْ في هذا عقديا وأخوّةً لا ملكا ومكانا)، ذلكم المفهوم الذي لمْ يزلْ قائما حتى اليوم! سادتي القارئين: لا يمكنُ للأجيال أنْ تشعرَ بانتمائها إلى أوطانها دون أنْ تدركَ أنّ دماءً لآبائها سالتْ على الأرض لتحريرها، أوْ أنّ هذه الأوطان حملتْ خصائصهمْ وبشكلٍ تعبيريٍّ راقٍ مقنعٍ لهذه الأجيال، ومسمّى هويّةِ الوطن وموسيقى نشيده التي يمكنُ أنْ تسريَ في دماءِ أجيالنا كما نراها في كلّ أوطان العالم هيَ الدّفقةُ الوطنيّةُ الأساسُ التي يمكنُ بها ترسيخُ وطنيّةِ أجيالنا. تُرى: هلْ يحقُّ لمجلسِ شورانا -أو غيره من أهل الشورى- طرحُ قضيّةِ وطننا الجوهريّةِ الأولى (هَوِيّة المكان)؟ وبعدها يحقّ لنا أنْ نتناولَ قضايا الفسادِ الإداريّ بمستوياته وفئاته؟