«المواطنة» مفهوم راسخ له فروعه المتعددة ، فهو يتصل بالمساواة القانونية والفكرية والاجتماعية ، في فرنسا - مثلاً - تنشط الجهود من أجل ترسيخ هذا المفهوم ليصبح القاعدة التي يتحرك فوقها كل من على ظهر فرنسا بلا استثناء ، حيث يدخل مفهوم « المواطنة « في فرنسا بحرب شرسة مع البنية الثقافية المتعددة التي تصبغ البيئة الفرنسية هناك.. لكن لماذا نضرب المثل بفرنسا ونحن نريد أن نتحدث عن المواطَنة ومفهومها في « السعودية « ؟ رصدت ذلك المفهوم في البيئة «الفرنسية» بوصفها البلد الأكثر تنوعاً وبوصف فرنسا البلد الذي يعيش حرباً ضارية من أجل إحقاق هذا المفهوم لتثبت فعلاً أن فرنسا «مطبخ القانون المعاصر» وأن «المساواة» التي ولدت من رحم فرنسي قابلة للتحقيق على عكس ما تصوره نقاد المساواة خاصة أنصار نظرية «إرادة القوة» الذين يرون في تحقق المساواة «استحالة وجودية» .. وذلك وفق سياقات فلسفية أخرى ليس هذا موطن التعريج عليها. «المواطنة» فعل متبادل ، بين الوطن والمواطن ، فيه مبادلة وحينما يرسخ هذا المفهوم نعرف أن مجرد التغنّي بالوطن لا ينتج فكراً «وطنياً « ذلك أن المواطنة هي جزء من «مفاعلة « اشتراك في النفع ، الوطن يمنح المواطن حقوقه ومكانته الاجتماعية والإنسانية الحقيقية ، والمواطن يمنح الوطن إخلاصه وصدقه ونزاهته واستقامته ، وهذه هي القيمة التي تحققها ثقافة المواطَنة التي طالما كانت مجالاً للحديث الإعلامي ولكنها ابتعدت عن أن تكون ميداناً للتبادل الشعبي ، وذلك لسبب أختصر طرحه هنا، وهو أن « تجلي النضال» الذي طبع المرحلة السياسية المضارعة لمرحلة قيام الحكومات العسكرية كان مرحلة نشطت فيها الأحزاب التي تدعي أنها ستحقق الديمقراطيات ، فأصبحت معارضة سياسية ضد حكوماتهم العسكرية ، ومع تصاعد العداء بين المعارضة والحكومات العسكرية نشأت أدبيات تهاجم « الوطن» وتضع الوطن والحكومات العسكرية في صفّ واحد.. حتى الجماعات الإسلامية المسلحة التي قامت على أنقاض « القومية العربية» كان لها نفس الموقف من « المواطنة والوطن» برغم أن المسببات مختلفة ، فترى تلك الجماعات وفق أدبياتها أن « الوطن» مفهوم حديث جاءنا مع اتفاقية «سايكس بيكو» ، وأن الواجب هو ترسيخ مفهوم «الأمة « بدلاً من مفهوم الوطن ، وكانت تدعي أن «الوطن» يجب أن لا يكون موطن ثناء ومدح لأنه من ضمن مدح الأمكنة التي قد تكون محلاً «للتوثين» .. كل تلك الحجج الطويلة كانت من أجل استبعاد تقدير المكان (الوطن) والذي ينتج عنه أنظمة وحقوق ووسائل ترابط اجتماعية عبر نمو مفهوم « المواطنة» وإغنائه بالتحقيق المستمر .. إلا أن الأحداث الدامية التي تسببت بها تلك الجماعات بسبب أدبياتها الكثيرة ساهمت في تعرية الكثير من الدعاوى وفي إبطال الكثير من المزاعم والحجج الباهتة .. فأصبح «الوطن» والخطاب الوطني ومفهوم «المواطنة» يتصاعد نحو الرسوخ يوماً بعد يوم .. نجد هذا مثلاً في نمو لا بأس به للحوار وفي نموذج «مركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني» بالذات حينما تجتمع الطوائف المختلفة كلها وأصحاب التوجهات المختلفة والتيارات المتعددة في المملكة للحوار من «أجل الوطن» .. فمهما اختلفت رؤاهم ومذاهبهم .. فإن المواطنة والانتماء لجنسية واحدة ولمكان واحد جعلهم يجتمعون «إخوة» يتبادلون الهموم الوطنية المشتركة ، ليصبح الوطن مع جو الانفتاح أحد ركائز الوطن الأساسية .. «الوطن والمواطن» من ضمن (الثوابت) هذا ما يجب أن يطرح وبشكل جلي من أجل انتصار مفهوم « الوطن» على مفاهيم أخرى تريد الخراب .. فكل من يمس الوطن ومقدراته ، أو يمس المواطن وعيشه وأمنه النفسي والفكري يصبح مخرباً .. إن «المواطنة» تعني الانفتاح على العالم ، فهي لا تعني التعصب للوطن ضد وطن آخر، أو احتقار الأوطان الأخرى ، وإنما تعني « الحفاظ على مقدرات الوطن» واحترامها، وتعني ترسيخ مفهوم التواصل الاجتماعي البيني .. وهذا جزء من دور التعليم وذلك عبر المساواة بين التلاميذ ، وأن يكون المعلم محققاً لهذا المفهوم ومحصناً من الخرافات والأفكار المسمومة التي ترسخ كراهية الطالب لوطنه أو لأهله أو لجاره عبر أدبيات تزرع الكراهية في النفوس والقلوب ، وهي أبرز ما يمكن تحقيقه ، وأن تمنح المدرسة للتلميذ حقه في النقد والسؤال .. كما يندرج في نفس السياق دور البيت والمسجد في ترسيخ مفهوم المواطَنة. فهد بن سليمان الشقيران [email protected]