محمد علي البيشي لكل شخص في الكون الحق في التماس المعلومات والأفكار والتعبير عنها، حسب حدود دينه وثقافته دون خوف من تدخل أحد، وهذا الحق مهم لتنمية الشخصية وإظهار كفاءتها وتدريبها على محاربة ثقافة الصمت، بل يعد مظهراً مبهجاً لصيانة كرامة الفرد على أي مستوى. إن الفكر الحي لا يحتاج لأقفاص تحجبه عن عواصف التغيير والإنماء، إذ يستطيع المواجهة وينتج البدائل ويضع الحلول لوحده. وفكر كهذا لا يمكن الخوف عليه ولا الحذر منه، بل تفتح له الأبواب لحماية العالم وجلب السعادة له، بمجرد إعطائه مساحة للتعبير وبقيود ليست وهمية! جاء في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان المادة 19: لكل شخص حق التمتع بحرية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحق حريته في اعتناق الآراء دون مضايقة، وفي التماس الأنباء والأفكار وتلقيها ونقلها إلى الآخرين بأية وسيلة. دعنا ننطلق من الإسلام، إذ قاد أقوى وأجرأ صورة للتعبير عن الرأي في قضية مفصلية وهي الدِّين، فجعل لأي شخص الحرية في التعبير عن دينه (لكم دينكم و لي دين) و (لا إكراه في الدين)، وبمقتضاها لا تكون الحرية عبارة عن أقوال بل ممارسات منطقية، لكن الشرط الوحيد هو عدم انتهاك حمى الدين الأصيل وهو الإسلام، وميزة الحرية هنا أنها جزء من العقيدة وليست تنظيماً سياسياً يراد منه التعايش والتكاتف الاجتماعي كما في دساتير العالم. لذا كانت القضايا الأقل حساسية منها أوسع حرية للتعبير، منها مناقشات عمر رضي الله عنه للنبي عليه الصلاة والسلام بصفته رسولاً ورئيساً للدولة بطريقة لائقة مهذبة في أكثر من مقام، فكل رأي لا يتعلق بقضية مسلَّم بها شرعاً أو عقلاً، قابل للنقد والمجاوزة بل والتثريب، فلا حصانة لفكر عالم أو مفكر أو أمير؛ لأن فضاء العقل المستنير بالشرع أرحب بكثير من هذا التحجير، فللجميع منا التقدير لا التقديس. وقد صدر عن منظمة المؤتمر الإسلامي النص على حماية الإسلام للتعبير عن الرأي، حيث يتمتع الفرد بكامل إرادته في الجهر بما يراه صواباً ومحققاً النفع له وللمجتمع، سواء تعلق بالشؤون الخاصة أو القضايا العامة، فلا قيود إلا وفق الشريعة، وما يقرره ولي الأمر. أما كُتَّاب الرأي بغض النظر عن انتسابهم الفكري أو المقاصدي، هم حملة تصوُّر معين – خاطئ أو مصيب – ليسوا أشباحاً نفني أعمارنا في تتبعها ونترك ما هو أهم. يقول المتنبي: «أَنامُ ملءَ جُفوني عن شواردها .. و يسهرُ الخَلق جرّاها ويختصِمُ». الحجة الضعيفة تنصرع أمام صرخة الحق ولا يتم لها ذلك إلا بمواجهتها والنزول لساحتها، يقول شعيب عليه السلام لدعاة الشرك – و ليس التحرُّر والانفلات – (وإنا وإياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين). مواجهة الرأي بالرأي – ما دام في إطار المُثُل والقِيم – يعطي لمصداقية الرسالة التي تحملها وزناً وثباتاً، وفي حال تزعزها أو الانحياز لأساليب القمع الفكري، تتهاوى المصداقية، وحالما تهتز وتتقلص، فإنه مُؤذنٌ بالعدّ التنازلي للانتشار الشعبي والشرعية الأخلاقية لصاحب المشروع الإسلامي أو الليبرالي مثلاً. والقسوة المحمودة لها حضور في المواجهة الفكرية، لكنها بزاوية غير منفرجة، كما قيل: «قسى ليزدجروا ومن يكُ حازما .. فليقسُ أحياناً على من يرحمُ»، فإسبانيا منعت من دخول الكتب الأجنبية إلى البلاد، في حالة تعرُّض هذه الكتب لأي من ثوابت المجتمع الإسباني، فقامت بنشر فهرس الكتب الممنوعة. وأحرق المجلس الفرنسي كتب المفكر فولتير، لما فيها من تعرُّض سافر للدين والملك، وحينما عرضت المسرحية الشهيرة «سانشو جارثيا»، لم يستطع الجمهور سماع البيت الشعري «أشك في أن السماء ترعى الإنسان»، لأسباب أخلاقية، فقامت الرقابة بعدها بشطب مقطع كامل من إحدى المسرحيات، والذي تضمن الحديث عن امرأة حامل، وجاء تعليقها المختصر: «مثل هذه القضايا لا علاقة لها بالمسرح». والثالث «التطرُّف الفكري» صورة بذيئة لوجه الشيطان، وضحاياه هم يده وقلبه، لا نستطيع سماع فكره إلا حينما ندعه يفكر بصوت مرتفع، يُعبِّر دون مجاز أو تورية عما في خاطره هو الداء والعلاج، لا الكبت باسم درء الفتنة والخوف من الشبهات أو منعِ المرجعيَّات، ولا الطرد من دوائر الإفتاء وتغيُّر تعاملنا معه، وحال السماع له من بعض الرحماء! تُزدرى أسئلته وتجتاله النظرات وتقتله الابتسامات الصفراء؛ لتهوي به الريح أو يُلقى في مكان سحيق، رغم أن الله تعالى حكى (قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها)، فيقع هذا الحائر فريسة سهلة لخطابات التحريض، وبعدها تبدأ وسائل إعلامنا الرسمية ببرامج التنديد، لكن بعد ماذا؟ أخيراً: الحقائق لا تخشى الأسئلة.