يتركني الغبار ويرحل.. فأتمدد وحدي في سكون القبر لا أجد ما أفعله.. والليل يوشك أن يجيء.. تتطاول عليّ أحلامي.. أفكاري التي غادرتني للتو تأتي لتتأمل ملامحي الساكنة، تميل عليّ ضحكاتي المجهدة.. ترفع دمعة قبعتها وتجلس قربي.. تحيطني الكلمات كأنها سنابل للحصاد.. تميل نحوي.. هل تعلم روحي كم هو واسع هذا القبر وجميل؟.. جميل على جسدي الساكن بملامح هادئة وتعرجات مفعمة بالأنوثة، التي لم تتعلم بعد تهجئة حروفها النافرة.. أنظر.. الأعوام تتكدس حولي.. طفولتي الشقية.. عنادي القاتل.. مراهقتي.. يغادر جسدي طيفه، ويعود طفلاً، يلهو بطائرة صغيرة، وحلم يكبر.. هل تبتسم شفتاي الآن؟ بدأ القبر يعتم والليل يدب في أوصاله.. لا أراني.. الطائرة الصغيرة تحمل أصوات ضحكات بعيدة، موج غاضب.. ويد.. آه من تلك اليد التي عاينت تفاصيل جسدي، وركلتني للموت وابتعدت.. هل جزع جسدي في القبر وحده؟ تتقدم نحوه قصائدي الضائعة، وتلك التي هربت بعدي.. تمسك بيدي.. تبعث فيّ الدفء.. فيتململ التراب تحتي.. لقد اعتاد البرودة والسكون.. قصائدي آثمة، هكذا همس التراب وسمعته.. لكن القصائد دافعت عني.. عن دفء تمنحني إياه في قبري البارد.. لم أشأ أن أستمع لحوار عنيد.. لكن الريح التي اندلعت فجأة من قصيدة، جعلت الرجفة تسري في عروقي اليابسة.. فجعلت تصفر وتهتز كأبواب مشرعة.. جزع قبري من هذه الضجة، التي تزعج جيرانه الموتى... قال بصوت حازم: أيتها الميتة.. أوقفي الضجيج.. قالت قصيدتي.. للشاعرة موتها الخاص.. قالت كلمة هجرتها زمناً.. الشاعرة ماتت قبل الموت بعامين.. جزعت أصابعي .. هل ستحاكم الآن؟ قالت نملة تدب على جسدي .. سأرسم تفاصيل المقصلة وأعود.. قلت أنا لست قديسة ولا نبية لا ولست من الشهداء.. قال قبري.. لتمت الشاعرة مرتين وننتهي.. قال الحجر الذي يعكس ملامح وجهي الساكن.. لا يحاكم الميت مرتين، لقد دخلت هنا ممزقة فجمعناها.. اقشعر جسدي.. سيكتشفون أن نهدي الأيسر لم يكن معي.. سيخجل جسدي من نقصه الفاحش.. قال الحجر ثانية.. يجب أن يكتمل الجسد ليحاكم... هنا انكمش علىّ موتي أكثر.. سيعثرون على النهد مراقاً في صفحة بيضاء، كأنه قطرة نسيت أن تجف.. كأنه الخفاء الذاهل عن ذاته.. تحركت كل الأشياء حولي.. كان على كل من أحاط بجسدي الميت أن يبحث عن النهد.. قبل أن يكتشفوا أنَّ روحي غادرت قبل دقائق من إهالة التراب.. كان على القبر أن يكتشف أنه لم يحرس جسدي جيداًَ.. وأن جسدي لا يموت مكتملاً إلا في الصباحات الماطرة، وها أنا أموت في صيف قاتل.. يحرق أصابع روحي كلما حاولت أن تلقي نظرة على جسدي المنتظر..