جاء في السيرة أن وفداً من أهل الحجاز دخل على الخليفة العادل عمر بن عبدالعزيز فاشرأب منهم غلام للكلام فقال عمر: مهلا يا غلام ليتكلم من هو أسن منك. فقال الغلام: مهلا يا أمير المؤمنين إنما المرء بأصغريه قلبه ولسانه فإذا منح الله العبد لسانا لافظا وقلبا حافظا فقد أجاد له الاختيار؛ ولو أن الأمور بالسن لكان هاهنا مَنْ هو أحق بمجلسك منك فقال عمر: صدقت. تكلم فهذا السحر الحلال فقال: يا أمير المؤمنين نحن وفد التهنئة لا وفد المرزئة قدمنا إليك من بلدنا نحمد الله الذي منّ بك علينا لم يخرجنا إليك رغبة ولا رهبة لأنا قد أمنا في أيامك ما خفنا وأدركنا ما طلبنا. فنظر الخليفة في سن الغلام وأنشأ يقول: تعلم فليس المرء يولد عالما وليس أخو علم كمن هو جاهل وإن كبير القوم لا علم عنده صغير إذا التفت عليه المحافل المشهد التاريخي السابق يقدم أروع مثال على مسألة الثقة بالنفس فهي شعور نفسي يعكس قناعة الإنسان بإمكاناته وأهدافه وقراراته. فالثقة بالنفس فضيلة وهي ليست غرورا ولا مسكنة أو كما عبر أرسطو عن الفضيلة: اختيار الإنسان للحالة الوسطية بين رذيلتين (أي لا إفراط ولا تفريط) فالكرم حالة وسطية بين الإسراف والبخل والشجاعة حالة وسطية بين التهور والجبن، إذا نحن بصدد الحديث عن فضيلة مهمة في حياتنا (لا غرور ولا مسكنة) إنه الشعور الداخلي بالاطمئنان للقدرات التي وهبها الله لنا. هي لا تعطى لأنها موجودة في دواخلنا لكن ظروفا معينة منعت تطورها لذا فإن عدم الثقة بالنفس تعرف بأنها: شعور الإنسان بالسلبية والتردد وعدم الاطمئنان للإمكانيات التي يمتلكها. ربما تشكل الثقة بالنفس هاجساً للكثير من الناس كأن يقول الشخص إن ابني يعاني من عدم الثقة بنفسه أو أن يقول الإنسان ليس لدي ثقة بقدرتي على التحدث أمام الناس أو قد ينظر الإنسان للأغنياء بأن لهم مالا وأن فلان لديه سيارة فارهة ومنزل ضخم وفلان لديه شهادة عليا وأنا لا أملك شيئا لذا فأنا غير موفق في حياتي. وهناك قصص واقعية تؤكد عدم قناعة الإنسان بما حباه الله به من ملكات على سبيل المثال فقد كان هناك شاب ذكي يدرس في مدرسة أهلية راقية جداً حصل على منحة لتفوقه لكن عندما كان يريد زملاؤه أن يوصلوه إلى منزله كان يقف عند فيلا ليست لعائلته في بداية الحارة حتى يوهم الزملاء بأنه ليس فقيراً! ونسي هذا الشاب الحكمة القائلة :(من لا يقبلني كما أنا فلا اعتز بصداقته). ومعلوم أن الثقة بالنفس من السمات المكتسبة من البيئة الاجتماعية لذا أوصي الوالدين هنا بأن سلوك الثقة بالنفس لا يتم في يوم وليلة بل يحتاج إلى تشجيع الأعمال الصغيرة حتى نصل إلى المشروعات الكبيرة. والثقة بالنفس ركيزة أساسية لتحقيق التوافق النفسي والقدرة على قهر الصعاب وبلوغ النجاح والتميز لكن ما نلاحظه في المجتمع من اهتمام بالمظاهر الزائفة يعد أحد أسباب التعويض عن الثقة بالنفس كالاهتمام بالجوال الفاخر والحقيبة النسائية الماركة ورقم لوحة السيارة المميز وجميعها لا تدل على النجاح لأن النجاح يصنع مرتين: مرة داخل الإنسان ومرة في واقع الحياة أي تراه العين. في الحقيقة إن العوامل المؤثرة على ظاهرة الثقة بالنفس متعددة لكنني أوجز الحديث بالتركيز على عاملين جوهريين الأول: وضوح الهدف والثاني: المثابرة في أوقات الفشل. فعلى مستوى وضوح الأهداف هناك تجربة جديرة بالتأمل وقعت في جامعة هارفارد عام 1979 حيث توجهت الدراسة بسؤال لطلبة الدراسات العليا في ماجستير إدارة الأعمال عما إذا كانت لديهم أهداف واضحة ومكتوبة لمستقبلهم وخطة وطريقة لتحقيق تلك الأهداف. وقد أظهرت الدراسة أن 3% فقط من الخريجين لديهم أهداف وخطط مكتوبة وأن 13% فقط لديهم ما يشبه الأهداف لكنها غير مكتوبة وأن 84% ليس لديهم أية أهداف واضحة على الإطلاق. بعد عشر سنوات أي عام 1989 تم جمع مجموعة الطلاب نفسها حيث اكتشف الباحثون أن نسبة الثلاثة في المائة الذين كانت لديهم أهداف واضحة ومكتوبة يزيد دخلهم المالي بنحو عشر مرات عن بقية الخريجين الذين تبلغ نسبتهم 97% الذين ليست لديهم أهداف واضحة ومكتوبة! أما العامل الثاني الذي يتعلق بالمثابرة -ستكون لنا محطة فكرية مع تجربة نبي الله يوسف عليه السلام- فيمكننا تتبعه عبر سيرة كل الناجحين حيث نلاحظ أنهم فشلوا بطريقة أو بأخرى ولكن إصرارهم وثقتهم بأنفسهم قادتهم للتميز في الحياة فقد فشل (إبراهام لينكولن) في المجال السياسي ثماني مرات لكنه ظل مثابرا حتى أصبح رئيس الولاياتالمتحدة الأمريكية! وفشل (أينشتاين) في الاختبار الذي يتأهل بموجبه للحصول على مجرد شهادة دبلومة ثم تألق ليكون أشهر علماء العالم! وكذلك الحال لتوماس أديسون الذي تعثر مئات المرات لكنه سطر لنا حكمة جميلة تقول: (الفاشلون هم أناس لم يعرفوا كم كانوا قريبين من النجاح حين توقفوا) أما (ونستون تشرشل) فقد فشل في اختبار القبول في الجيش أكثر من مرة ثم أصبح رئيسا لوزراء بريطانيا! لذا لم يكن مستغربا أن يصرح قائلا: (النجاح هو القدرة على الانتقال من فشل إلى فشل دون أن تفقد حماسك).