قلت في المقال السابق ولا أجد حرجاً في تكرار القول مرةً أخرى أني حين أتحدث عن بعض الممارسات الخاطئة لبعض شيوخ القبائل فإنما أعني بذلك فئةً محددةً؛ قد بلغت من التجاوزات حداً هو أكبر كثيراً من التستر عليها أو محاولة إخفاء عيوبها وما ذُكر من حقائق هو فقط ما يمكنني الحديث عنه لأنه أوضح من أن يتم إنكاره، فعلى ما يبدو أن المقال قد لامس جرحاً عميقاً لدى البعض عن غير قصد فأدماه، لا بسبب حِدّته أو جِدّة معلوماته بقدر ما كان الجسد هزيلاً ليس لديه أدنى درجات المقاومة فتهتك وانفتق وبدأ ينزف بغزارة حتى افتضحت درجة تلوثه على طريقة (يكاد المريب أن يقول خذوني)، أما الأغلبية من الشيوخ فلا شك لدي في أمانتهم ونزاهتهم ووطنيتهم والاعتراف بفضلهم وعنايتهم بكل ما من شأنه تعزيز الانتماء وواجب الولاء والوحدة الوطنية، بل أعتقد أنه فيما لو أقر مبدأ الانتخاب على مستوى القبيلة فإنهم سيكونون الخيار الأفضل بين أبناء قبائلهم، كما أود من الإخوة القرَّاء أن يعرفوا أن فكرة الانتخاب على مستوى القبيلة لم يكن لي سَبقُ الإتيان بها، بل سبقني إليها قبل سنوات رئيس التحرير الحالي لجريدة الشرق الزميل/ قينان الغامدي في مقال له في جريدة الوطن تحت عنوان (تكوين مجتمع مدني)، معلقاً على ما أوردته جريدة الشرق الأوسط من خبر عن انتخابات قبيلة آل عياش بمنطقة الباحة لمنصب شيخ القبيلة نظراً لوجود شخصين يتنافسان على المنصب. إن مشكلة بعض شيوخ القبائل تكمن في أنهم يريدون قياس هذا العصر بمقاييس عصور أخرى، فتجدهم في تفكيرهم لم يبرحوا عصر الظلم والنهب والسلب وقاعدة (تغدى فيهم قبل لا يتعشون فيك)، مذكرين دوماً بما لهم من مكانة وحظوة لدى الدولة ووجاهة اجتماعية جعلت منهم في بعض الأحيان أشخاصاً فوق القانون؛ معتقدين أن كفتهم هي الراجحة على أبناء قبيلتهم مجتمعين!، أو ربما أشاعوا بين الناس من الخرافات والأساطير وغيرها من كرامات (الاستبخات) التي ما زال البعض من البسطاء والسذج يصدقها ويتعامل بجدية معها، فاستغلوا ذلك في ترهيب الناس والتكسب من ورائهم وتحولوا من خدمتهم إلى استعبادهم ومن مبدأ المشاركة إلى الاستئثار، مع أن من هو أعلى منهم منزلة وقدراً وأكثر محبة في قلوب الملايين من الشعب -أعني خادم الحرمين الشريفين- قد قال في أحد التصريحات: (ما أنا إلا أقل من خادم لكم)، وقال في تصريح آخر: (بدون الشعب السعودي أنا لا شيء)، فشتان ما بين العُلو والتعالي! المشكلة الأخرى لهؤلاء الفضلاء أنهم ما زالوا يعيشون في زمن السيف والرمح، بينما يعيش غيرهم في زمن الاتصالات وثورة المعلومات وسيادة القانون، كما أنهم يفكرون بطريقة بدائية تدعوك إلى الضحك أكثر مما تدعوك إلى الفهم والاستيعاب، أدت إلى أن يسير الناس بعقولهم خطوات إلى الأمام بينما هم يسيرون بتفكيرهم خطوات إلى الخلف، حتى أصبحت المسافة شاسعة بين ما يفكر به الإنسان العادي وبين ما يشغل تفكيرهم، فصار من الصعب على الإنسان الطبيعي أن يفهم لغتهم دون الحاجة إلى وسيط من المتملقين والمنافقين والمستعبدين الذين رُوِّضوا على التبعية الكاملة والانقياد الأعمى و(سم طال عمرك)، حتى صاروا في بدائيتهم وممارستهم للاستعلاء لا يختلفون كثيراً عمن أراد أن يخوض حرباً في هذا العصر وليس لديه من الأسلحة سوى ما ورثه عن أجداده من سيوف وخيول ودروع وشوارب مفتولة، متجاهلاً كل الدعوات التي تريد إقناعه أن تلك الأشياء قد ذهبت إلى غير رجعة، وأنها لم تعد تصلح لغير أغراض الزينة والعرضة في المناسبات والأفراح، كما أن من الصعب العثور عليها في غير أماكن التراث والمتاحف والأسواق الشعبية القديمة، لكنه مع الأسف الشديد لم يستمع إلى نصحهم وإنما قام بفتل شواربه وتوشح سيفه معتلياً ظهر جواده واتجه إلى الأعداء ظاناً نفسه عنترة بن شداد، فلما رآه الأعداء حسبوه فارساً من مخلفات العصر الجاهلي؛ فضحكوا على مظهره واحتاروا بين إطلاق النار عليه أو منحه فرصة أخيرة؛ فلما أدركوا سذاجته وبساطته قرروا أن يُحنَّط في أحد متاحف التراث عندهم كي يشير إلى مرحلة من مراحل التطور البشري.