* ومما يَشي بإرباك حالتنا الفقهية اليوم: أن كثيرين من يقرؤون فقه من سبقهم ابتغاء أن يُثْروا منه وبه، توشك أن تكون قراءاتهم تلك لا تتعامل مع ما تقرأه على أنه: «محض اجتهاد» اضطلع به رجال مثلهم! بل ألفينا غالبهم لا يقرؤون: «مُنتَج من مضى» بوصفه فقها له مكانه وزمانه ومجتمعه وسواها من الأسباب التي من شأنها أن تؤثر في إنتاج المعرفة -والفقه منها- بل راحوا يقرؤونه بوصفه فقها راهنا -ملائكيا- وليس أدل على هذا من أنهم يتجشمون وعورة استصحابه في فتاواهم قسرا على سبيل من التعنت وهي الحال التي تَخرُج بالفقيه عن بَدهات هذا العلم! * وأسأل كل الذين يقرؤونني الآن: بالله عليكم.. هل الفقيه -ممن صَلُب عوده فقها- حينما يُعمل اجتهاده بما توافر عليه من أهليةٍ ثم لا يَنِي في التحرر من عقلية: «ذهنية التحريم» يكون حينها قد تلطخ تأثما واطَّرح خلف ظهره تقواه وورعه وباع دينه بعرض من الحياة الدنيا؟! وفي المقابل هل شأن من تأسست ذهنيته على نحوٍ من: «النزوع للتحريم» يكون هو الأكثر استصحابا لحال التقوى والورع، والأوفر توصيفا بأنه الأقرب: موافقةً لمرادات الله تعالى ورسوله؟! * ولئن ابتغيتَ معرفة المنهجية التي يدير عليها -من تَلقَّب ب: الفقيه- قراءته لمدونات من سبقه من الفقهاء، فانظر إلى أي مدىً يرهبك ساعة أن يخوفك من أن: «الخروج عن الإجماع» إنما يُعدُّ انشقاقا عن الأمة وخروجا عليها، وبالتالي فلا يعدو أن يكون مجترح هذا الخروج: «عابثاً» بمسلمات الشريعة إذ لم يرقب في «النصوص الشرعية» إلاًّ ولا ذمة. ثم لا يفتأ يذكرك ديانةً وفقهَ مآلاتٍ بأن: (الاجتماع على خطأ خير من التفرق على صواب)! ولقد نال هذا الأمر من ابن تيمية شيئاً كبيرا من اهتمامه، فنبه عليه، ورد على بعض هذه الإجماعات المدعاة، وبين زيفها وخطأها في مواضع كثيرة من كتبه. ولعل منها قوله: «وهذا الإجماع نظير غيره من الإجماعات الباطلة المدعاة في الكلام ونحوه، وما أكثرها، فمن تدبرها وجد عامة المقالات الفاسدة يبنونها على مقدمات لا تثبت إلا بإجماع مُدّعىً أو قياس، وكلاهما عند التحقيق باطل» ويوشك ابن تيمية أن يُضيِّق -وفق فقه الثاقب- شأن «الإجماع» المعتبر إذ يقصره على ما كان من الصحابة وحسب. وهو بهذا لم يكن بدعا ممن سبقه، وأحسب أنه بعمله هذا يكون قد شكك -بقوة- في حرفية مفهوم الأصوليين للإجماع ويمكنك أن تقرأ شيئا من ذلك مبثوثا في تعقبه على ابن حزم – المرتبك هو الآخر في شأن الإجماع – فيما بين كتابيه «المحلى» و»مراتب الإجماع» وقد تفطن لذلك ابن تيمية. * في حين أن :«الإجماع» -حسب الاشتغال الحرفي للأصوليين- كان فاعلا قويا في إضعاف حق: «الاختلاف» الرحب وفق المبدأ القرآني: «ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة..» ويمكننا عد الإجماع -حسب فهوم الأصوليين- مناكفا للمنهج القرآني، ذلك بأن: «الاختلاف» في المنهج القرآني لا تتأتى مساقاته باعتباره: محض ظاهرة بشرية مرذولة بل إن مساقاته السننية لا تتنافى بالمطلق مع قوله تعالى: وإن هذه أمتكم أمة واحدة.. «فالاختلاف هاهنا إنما هو فقه «السعة» اختلاف تنوع «إثرائي» يأتي منتظما في الكليات الشرعية التي تأخذنا اتجاها واحدا نحو الاتفاق بعامة. * كما أن محض الانقياد المطلق لدليل: «الإجماع» -أسوة بدليل الكتاب والسنة- ومنحه -أي الإجماع- صفة الإطلاق في القبول ومنتهى الصوابية وبذل الوسع في عزله عن ظروف تكوِّنه ونشأته، ينتج عنه بالضرورة ما يمكن أن يعرف ب: تضييق: «خناق الفقه» حد الانسداد إزاء ما يستجد من نوازل وهو ما ينذر بضمور: فقه المآلات واعتباراتها. وحسبنا أن الفقه نشاط «معرفي» لا يمكن أن ينشأ خارج زمنه! ولا بمعزل عن العلوم المستجدة التي ترتفق مع متغيرات العصر حركة وسكونا. * وإذن.. فحاشا هذه المقالة أن تريد لفقهنا أن يخرج عن: «دلالة الكتاب والسنة» ذلك أن دلالتهما لا تحرم فقهنا صفة التجدد والاستجابة لكل مستجد، بيد أن هذا مرهون بتحرر تلك «الدلالة» من قيود التفسير التاريخي والجغرافي والاجتماعي والنفسي الذي لا يبرحها بحال. وفي مقابل هذا؛ ما أحسب أنه يمكن لأي أحد أن يرتقي الصعب في دعوى «تجاهل الإجماع» إذ لا يمكن بأي حال أن يتم «تجاهل» إجماع الفقهاء على جملة كبيرة من أحكام فقهية غير أني -كباحث- أرفض دعاوى «الإجماع» في كثير من مسائل نتبيَّن زيفها إبان فحصها. ويمكن مقاربة ذلك الخطل فيما يكون عادة من الخلط بين ما هو معلوم من الدين بالضرورة ويورد مورد الإجماع، وبين القضايا الظنية التي تختلف حولها الأنظار ويذكر أن فيها إجماعاً! وهذا الخلط أفرزه المفهوم الأصولي للإجماع الذي لا يصح بحال أن يسحب على ما كان معلوما من الدين بالضرورة. * ولعله يمكننا القول دون وجل: إن الآيات والأحاديث التي يدار عليها/ وبها: «فقه الإجماع» هي الأخرى بكبير حاجة إلى أن يصار إليها ثانية ابتغاء إعادة قراءتها وذلك بفحص الفهم البشري -النسبي- لها نقدا وتقويما، الأمر الذي يفضي بنا نحو إرجاع البصر ثانية في النظر إلى «موارد الإجماع» وغربلتها وتصنيفها من جديد. * ومن له أدنى حظ من النظر في تأريخ التدوين الفقهي سيكتشف دون عناء بأنه كل ما ضمر: (فقهنا) نزعنا للأخذ بدعاوى: «الإجماع» وبما اشتهر من الفتاوى المغلولة بقيد «الأحوط»! وهذا كما أومأنا إليه -في المقالة الأولى- كان له أثره القوى في إعاقة نمو فقهنا وتعثر إمكانية وفائه بالنوازل والمستجدات. * وبكلٍّ.. فحتى ننأى ب»الإجماع» من أن يكون مربكا للأمة وفقهها؛ يلزم أهل الاختصاص كسر حاجز «الخوف» والمطالبة بإلحاح في: «تطوير دراسة الإجماع» ليس في شأن تغيير مفهومه فحسب، وإنما يكون صلب التطوير: خلق تصور جديد يلغي الكثير من مفردات «الإجماع» بل حتى قسيمه فيما يعرف ب: «الإجماع السكوتي» وتجويز نسخ الإجماع بالإجماع وهذا ما وكده أحد الدارسين المسددين بأنه يجب: «.. أن لا يُهتم كثيراً بالجدل الأصولي حول حجية الإجماع، فالأدلة والآراء في هذا كلها احتمالية... ويتطلب هذا التطوير لمفهوم الإجماع التركيز بصفة خاصة على الاجتهاد الجماعي وإبراز مدى حاجة الأمة إليه في عصرها الحاضر..». * للضرورة: الحلقتان تناولتا الإجماع وفق التوصيف له ب «الإرباك»، ولم يكن التناول حديثا في الدرس الأصولي ذلك أن الأخير له مظاناته ولي دراسة في تعقب «النظام» و«الشيعة» في إنكار الإجماع.. ودراسة أخرى: «إجماع أهل الكلام وتعقب ابن تيمية لهم». قلت ما سبق اضطرارا: ومن البلية عذل من لا يرعوي.. عن غيه وخطاب من لا يفهم.