ما بين حفظ لمتن “أصولي” وإعادة درس لحواشيه وإدمان نظر في مطولاته إبان جردها و.. و..، كنت لا أفتأ أجدني أتوقف كثيراً في مبحث: “الإجماع”! ثم لا ألبث من حينها أن أدون – بصمت- على حواشي ما أدرسه؛ أدون شيئاً من مرقوم أتضاءل حينذاك في تسميته تعليقاً، وأياً ما كان الأمر فإنه لا يعدو أن يكون تدويناً يشبه كثيراً ما سأنثره هاهنا بإيجاز، وعلى هذا النحو: * أحسب أن السلف بمنهجيتهم الرصينة قد علمونا أن نطرح هالة “التقديس” فيما ورثناه عنهم من علم/ وتصانيف. إذ حفزونا -ديانة- على إعادة النظر فيما دونوه جراء ما يكتنف مدوناتهم- ومعارفهم من نسبية الصواب التي من شأنها سننياً أن تعتور اشتغالاتهم العلمية ذلك أنها منوطة بآلية: الفهم البشري الموصوف بالقصور؛ فضلاً عن ارتهانها تالياً للشرط التاريخي والجغرافي ما يجعل تراثهم بنفسه واجب التجاوز عقب التأسيس عليها والصدور عنه، وبهذه المنهجية يمكننا أن نتوافر شرعاً على إعادة الاعتبار لنصوص الوحيين كتاباً وصحيح سنة حيث إنهما -دون سواهما- لا يخضعان البتة للنسبي ولا للتاريخي ولا للمكاني إذ فيهما يتمحض المطلق في قبولهما حين التعبد بتلقيهما دينا؛ كما أنه إليهما يكون الرد حال الاختلاف وليس ثمة من ثالث يشركهما. * ما من حكم شرعي يمكن أن يقال: إنه تمت استفادته بطريق “الإجماع” وحده وبخاصة وفق تعريف الأصوليين للإجماع، وإن يكن الأمر كذلك فكيف يجعل من “الإجماع” دليلاً شرعياً معتبراً موازيا للكتاب والسنة؟!، وحسبنا أن “الإجماع” ليس دليلا مستقلاً بذاته وإنما هو يأتي بوصفه تبعاً للكتاب والسنة. كما أن بذل الوسع في الاستدلال له هو الآخر تم بأدلة لا تنهض بها حجة مع عدم سلامته من ظاهرة التكلف في اقتحام عقبة تكييف الاستدلال. * وفي شأن حجته: اتفق الفقهاء على أنه إن لم يندرج الإجماع تحت كلية عامة من كليات الشريعة الثابتة في الكتاب والسنة وإلا فلا يعد “إجماعهم” حجة إذ لا ثم دليل على حجيته. * وعلى ما مضى؛ فما كان للإجماع أن يقع إلا في شيء مقطوع به في دين الإسلام معلوم من الدين بالضرورة ودونكم العبقري -الشافعي- يقرر ما توكد لديه بقوله: “.. لست أقول ولا أحد من أهل العلم: (هذا مجمع عليه) إلا لما لا تلقى عالما أبداً إلا قاله لك وحكاه عن من قبله كالظهر أربع وكتحريم الخمر وما أشبه ذلك” الرسالة برقم 1559- ثم يأتي بآخره تلميذه أحمد ليقول: “من ادعى الإجماع فهو كذب لعل الناس قد اختلفوا” -مسائل الإمام أحمد لابنه عبدالله برقم: 1826- * لئن أنعمت النظر في بدء مراحل تدوين “الفقه” و”الأصول” فإنك لن تعدم قراءة ما كان ثاوياً بين السطور التي لم يشأ المدونون – بادي الأمر- التصريح به إما لعدم التفطن له وإما تحسباً لما قدروه من مصالح في إضماره، ولعله يمكنني الإلماح إلى شيء منه بصيغة سؤال: هل إن: “الإجماع” في إحدى مراحل التدوين الفقهي استحال أداة سياسية تم تسخيره في مواجهة ما يمكن نعته: برأي مخالف وبخاصة إذا ما جاء على خلاف مقتضى السياسي وذلك وفق سجالات سياسية كان فيها الصراع على السلطة هو الحراك الذي طال ضره الديني والمجتمعي؟ بحسبان القوى الحاكمة هي من قد أفلحت في استثماره وعلى أي نحو شاءت أن تيمم وجهته؟ وقراءة ذلك تتبعاً لمراحل التدوين ستسفر عن شيء من الإجابة دون تحيز، ويمكننا الاستعانة على ذلك في مباحث الأحكام السلطانية إذ تم ترحيلها – مرة تلو أخرى- إلى البحث الفقهي العام ليكون عامل ضبط لسلوكات الأمة في مجالها السياسي والحياتي مدموغاً بعلامة الجودة “الإجماع”. وإذا ما أخفق هذا الأخير في قمع “الرأي الآخر” ألفينا جزءاً كبيراً من مباحث “الأحكام السلطانية” تحشر راغمة في كتب العقيدة وهو انتقال من مرحلة الفساد والبطلان أي: الخطأ والصواب إلى مرحلة التجريم والتكفير أي: الهدى والضلال.. * من يفقه”الإجماع” حسب تعريفات الأصوليين وبوصفه دليلاً شرعياً شأنه في ذلك كما الكتاب والسنة سيان؛ فلعله أن يتلمس: ما للإجماع من دور كبير في إعاقة نمو الفقه ذلك أن فاعلية أثر الإجماع ستنشط في أن تحول دون الاجتهاد في مستجد النوازل والاعتناء بما للمآلات من اعتبار وذلك بما يتم منحه للفقيه من أجوبة جاهزة تغلق عليه كل الطرق بحجة الإجماع! * إلى ذلك.. فيمكن أن يتم توظيف “الإجماع” أيضاً ضد أي موقف نقدي يطال السلطة (والسلطة هاهنا ليست السياسية وحسب) بحسبانه يمتلك حشداً مكتظاً من تبريرات فقهية جاهزة، وفي التأريخ السياسي لهذه الأمة كم قرأنا أحداثاً كان “الإجماع” فيها المسوغ ل: حالات من القمع السياسي ووأد الحريات وإشاعة المظالم! ولئن قيل لك آنذاك إن الأمر: “إجماع” فإنها حالة استنفار دثارها الشرعي ابتغاء أن تجعل الأبواب كلها موصدة! وليس لأي أحد مهما علا شأن فقهه أن يفصح حتى عن محض رأيه، وبكل فبعبارة موجزة: إنها إرادة الأمة وقد شلت في أمر التصدي للنقد أو حتى الإلمام برأي آخر. * هل يمكن للإجماع – وفق مباحث الأصوليين- أن يحفز في الفقيه اهتمامه في مجال الفقه السياسي بحيث يعي الفقيه: المعادلة المتوازنة ما بين الطاعة – بالمعروف- وبين الحق والحرية بحيث لا يطغى مبدأ على آخر أي مبدأ الطاعة ومبدأ الحقوق و مبدأ الحريات؟! * يدرك صغار طلاب العلم الشرعي أن الأساس في الاستنباط الفقهي بإيجاز هو: “اكتشاف الحكم الشرعي من دليله المعتبر كتاباً وصحيح سنة”؛ لكن ما يجب أن يدرك هو أن: تلفيق “فقه الاحتياط” إنما جاء في سياق المراعاة للإجماع أو لما اشتهر من فتوى! وهي الوضعية التي أسهمت في إرباك “فقهنا” المبني على رفع الحرج والتيسير، وانتهى الأمر لا بالفقه من حيث إرباكه وحسب وإنما ب”الأمة” كلها إذ خلق ذهنية نزاعة للتحريم! وإذا ما تجاسر فقيه وأفتى على خلاف ما اشتهر -أو ما زعم أنه خلاف الإجماع- اشتغل الجميع عليه تأثيماً واحتسبوا في سلبه تقواه وورعه ولم يتوانوا في طعنه ذلك أنه جاء بخلاف مسلمات الشريعة.. إنها حالة يتم فيها إرهاب “المجتهد”! وهذا ما خلق حالة من الانكماش لفقهنا إذ حجرنا واسعه وكأننا نأبى إلا أن نثبت عجزه عن استيعاب ما استجد وإلى الله المشتكي.