وقف (الجزاَّر) حاكم عكَّا من فوق أسوار مدينته يضحك ملء شدقيه على نابليون وهو يجرجر ذيول الهزيمة، بعد أن كان يطمح في تناول لؤلؤة الشرق بيده (القسطنطينية) فنابليون كان يرى أن (استانبول) تصلح أن تكون عاصمة العالم الذي يطمع أن يعتلي عرشه، هذه المرة كان الجنرال (طاعون) بجانب حاكم عكَّا (الجزار) كما كان الجنرال (شتاء) بجانب الروس في هزيمة نابليون على أبواب موسكو بعد ذلك بثلاثة عشر عاماً (عام 1812م) يخبرنا التاريخ أن بونابرت بعد أن استولى على مصر في نهاية القرن الثامن عشر (1798م) تحرَّك نحو بلاد الشام في حملة عسكرية جديدة فاستولى على يافا وتابع طريقه إلى عكَّا، حيث حاصرها شهرين بدون جدوى ثم بدأ الطاعون يفتك بجيشه العرمرم فولَّى مدبراً ولم يعقب، وتنقل لنا كتب التاريخ هذه الفقرة: (وجاء الجيش الفرنسوي إلى بلاد الشام بجراثيم الطاعون فانتشرت فيها واستفحل أمرها في حصار يافا، ووصل بونابرت في 16 مارس ( 1799) إلى مدينة عكَّا فلقي فيها مقاومة شديدة لم يكن يتوقعها وجرح الجنرال كافارلي جرحاً مميتاً فطلب قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة أن تُتلى على مسامعه المقدمة التي كتبها (فولتير) لكتاب (روح الشرائع) فاستغرب القائد الأكبر هذا الطلب، وبعد حصار دام شهرين رأى بونابرت عدد جيشه يقلُّ شيئاً فشيئاً من جراء اشتداد الطاعون عليه وفتكه به فتكاً ذريعاً؛ حينئذ صمَّمَ على العودة إلى مصر بعد أن تقلَّص ظل المقاصد الواسعة التي كانت تجول في فناء جنانه، وتدور رحاها على قطب الشؤون الشرقية وتجعله يتنقل بالفكر من ضفاف السند إلى شواطيء البوسفور وقد قال فيما بعد: (لو سقطت عكَّا لغيَّرتُ وجه العالم، فقد كان حظ الشرق محصوراً في هذه المدينة الصغيرة).وفي 20 مايو صدر الأمر بالانسحاب ووصلوا إلى يافا في 24 منه فكانت المستشفيات فيها تغصُّ بالمرضى حيث كانت الحمَّى الوبيلة تحصدهم حصداً، فعادهم القائد الأكبر متفقداً أحوالهم، وقد بلغ التأثر منه حين شاهد ما صاروا إليه وما كانوا يشعرون به من العذاب. وشاور بونابرت أصحابه في الأمر فقالوا له إن كثيرين منهم يطلبون الموت بإلحاح، وأن مخالطتهم للجيش تكون وخيمة التبعة عليه، وأن الحكمة والمحبة تقضيان بتعجيل وفاتهم ساعات والإجهاز عليهم وذكر بعضهم أنهم جرَّعُوهم شراباً عجَّل موتهم)؟!