استنفذت الكثير من التعليقات على وصول الإسلاميين للسلطة في المقالات والبرامج الفضائية والحوارات، فقد انتهت مرحلة المفاجأة والانطباعات الأولية، وبدأت محاولة التكيف مع الأمر والانتظار إلى أين تسير الأمور؟ وما بين التهويل والتقاط الأخطاء بموقف هنا أو تصريح هناك، وجدت دعوات لتفهم أكثر «وإعادة التفكير في الإسلاميين» كما طالب بذلك خليل العناني (الحياة 7 مارس 2012) حيث يرى أننا «عشنا عقودا طويلة نرى الإسلاميين إما (شرا مستطيرا) يتربص بالبلاد والعباد وذلك وفق منطق أهل السلطة، وإما (ملائكة لا يخطئون) وفق منظور أتباعهم وأنصارهم». وإذا كانت الحالة التونسية اتضحت فيها الأمور أكثر من غيرها، ففي الحالة المصرية اقتربت المرحلة الأهم لحسم الرئاسة حيث ستغلق قريبا أبواب الترشيح. اللافت أن الإسلاميين أكثر ارتباكا في اختيار مرشحيهم، فقد برزت خلافات كثيرة بين اتجاهاتهم المختلفة، ما بين أولوياتهم في المواصفات الإسلامية المطلوبة وبين التفكير بدعم مرشح توافقي تكنوقراط لا ينتمي لأحد للخروج من المأزق. خلال هذه الفترة من تجربة الممارسة السياسية في دول الربيع العربي، فقد أظهرت هذه المجتمعات انضباطا معقولا، بالرغم من بعض مظاهر الفوضى والارتباك والقلق في ظل غياب الدولة ومؤسساتها للسيطرة على كثير من الأمور، ومع ذلك لم يحدث عند صناديق الاقتراع حوادث معطلة لسير العملية السياسية. لقد تفوق المجتمع حتى الآن على القوى السياسية التقليدية والثورية الحديثة في انضباطه وشعوره بالمسؤولية. مقابل ذلك عجزت الكثير من القوى عن التوحد والاتفاق والتفاهم فيما بينها، بمن فيهم الإسلاميون الذين تزداد خلافاتهم بمرور الوقت. تعامل البعض مع القوى الإسلامية وكأنها اتجاهات غامضة لا أحد يعرف عنها شيئا عندما خرجت من مخابئها، والواقع خلاف ذلك فالاتجاه الإسلامي معروف بمختلف أطيافه في العالم العربي ويمكن التفريق بين كل طيف وآخر بأرائه الفقهية الدينية ومواقفه السياسية والاجتماعية ومدى تشدده وتسامحه، فقد تراكمت العديد من الدراسات والأبحاث منذ نصف قرن عنهم، وإذا كان البعض يجهل هذه التفاصيل فهي مشكلته هو. إذا كانت هناك قوى مجهولة وغامضة فهي الأسماء الجديدة والقوى الثورية الصاعدة التي أسهمت في تغيير المشهد السياسي في الميادين وعبر الإعلام الجديد، ولهذا كان اختيار المجتمع منطقيا في هذه المرحلة من الناحية الواقعية والسياسية، فقد اختار من يعرفه على من لا يعرفه.هناك الكثير من المبررات لارتباك التيارات والقوى السياسية بحكم حداثة التجربة غير المسبوقة في الإطار العربي والحذر الشديد والحسابات المعقدة. لم يواجه التيار الإسلامي صعوبات في تنظيم نفسه للمجتمع لأنه كان حاضرا ليس بسبب الذكاء التكتيكي وإنما لأن طبيعة الشأن الدعوي والخيري والأعمال التعبدية اليومية المفروضة على كل مسلم تتطلب وجودهم اليومي مع المجتمع مقارنة بغيرهم من الاتجاهات. لهذا اتضحت قيمة هذا الحضور الإسلامي في المجتمع فورا مع أول عملية انتخابية نزيهة فقد حافظ المسجد على مصداقيته أكثر من المنابر الإعلامية التقليدية وإعلام الأنظمة السابقة. لقد استفاد الإسلاميون من أبرز نقاط قوتهم السابقة، لكن في المراحل التالية بدأت تظهر صعوبات في الخلافات فيما بينهم، ولا زال التيار الإسلامي قابلا للانشقاقات المستمرة والتفتُّت بصورة أكبر من مرحلته السابقة، وآثار مثل هذه الاختلافات تظهر حتى خارج نطاق دول الربيع العربي، لأنه مع كل خطوة سياسية ستظهر خلافات جديدة في الرأي الديني، فمن يتنازل عن مبدأ بسبب الضرورة السياسية سيجد إسلاميا آخر يزايد عليه، وستؤثر هذه الخلافات على الإسلاميين في دول أخرى لأنها تؤصل لإعادة تقييم بعض المفاهيم والمواقف والآراء الفقهية التقليدية. يصعب على أي تيار التحكم بمثل هذه الاختلافات المتوقعة في كل الاتجاهات العلمانية والإسلامية عند أي ممارسة سياسية، لكن في حالة التيار الإسلامي ستبدو إشكالية الصراع على التفسير الصحيح للإسلام أكثر خطورة. محمد الحداد في «رسالة مفتوحة إلى راشد الغنوشي» (4 مارس 2012 جريدة الحياة) لا تخلو من توتر الكاتب، أشار إلى إشكالية فشل حزب النهضة ذي المرجعية الدينية في إدارة الشأن الديني، وضرب عددا من الأمثلة والممارسات الخارجة عن سيطرته. أظهرت تجربة الإسلاميين حتى الآن بعض المشكلات الجانبية في الأداء والتصريحات، لكنها لا زالت غير معطلة للعملية السياسية، حيث برزت بعض الصدامات والاختلافات التي تبدو أحيانا طريفة ومثيرة للتعليقات الساخرة، مثل كلام النائبة الإخوانية في البرلمان المصري عزة الجرف حول موضوع الطلاق بأنه في ظل حكومة الإخوان المسلمين ستنحسر حالات الطلاق! ويبدو أن نواب حزب النور هم الأكثر وقوعا بتصريحات وتصرفات غير موفقة بسبب الخبرات السياسية الضعيفة مما جعل المتحدث الرسمي باسم الحزب يقدم اعتذارات متكررة عنها، وقد وفرت مثل هذه الأخطاء أمثلة لبعض الكتاب للسخرية من الإسلاميين ففي واقعة «رفع الأذان» التي قام بها النائب السلفي، يسخر فالح عبدالجبار في جريدة الحياة (18 مارس 2012) منها ويعتبرها «أول الغيث إطلاق الأذان في قاعة البرلمان المصري بعد صعود عدد من مؤذني الجوامع إلى مرتبة نواب، الذين لم يتلبسوا مهمتهم كمشرعين وبقوا في جبة المهنة السابقة» لكنه لم يستحضر كيف تعامل معه بحزم رئيس المجلس سعد الكتاتني ورفض مثل هذه المزايدة الدينية وهدده بالمحاسبة وهو إسلامي إخواني. التيار الإسلامي ليس الصانع الوحيد للثورة الشعبية، وهذا سيفرض عليه قدرا من الاحترام للرأي الشعبي في كل خطوة سياسية. الإعلام الجديد كما ساهم في إسقاط أنظمة فهو بدأ يسقط القوى الأخرى بما فيها الرموز الدينية، ولا زالت أمام الإسلاميين الكثير من التحديات في قضايا اقتصادية واجتماعية وسياسية وغيرها. في الإعلام مثلا: ما هو الأفق الرقابي وفق مبادئهم في دولٍ الفن والسياحة من أهم دعامات اقتصادها؟ كثيرون يخافون من وصول الإسلاميين إلى السلطة، لكن هناك من يخاف من نجاحهم، وهناك من يخاف من فشلهم.