إذا لم يحدث طارئ صحي أو أمني فمن المقرر أن يقف الرئيس حسني مبارك أمام القضاء المصري صباح اليوم، في سابقة هي الأولى من نوعها في تاريخ مصر، ويأتي هذا التطور – إذا حدث – بعد يومين من قيام الجيش والشرطة بفض اعتصام مئات المواطنين في ميدان التحرير، وبعد أربعة أيام من مليونية الجمعة الماضية التي شهدت أكبر حشد للقوى الإسلامية التي رفعت شعارات تدعو للدولة الإسلامية وتطبيق الشريعة الإسلامية في مصر. الأحداث الثلاثة على رغم ما بينها من اختلافات، إلا أنها على درجة كبيرة من الترابط والتأثير المتبادل، فلولا اعتصام التحرير ومليونية 8 تموز (يوليو)، ما كان يمكن الإسراع بتكليف عصام شرف تشكيل وزارته الثانية ومحاكمة مبارك ونجليه ووزير داخليته، ولولا استمرار اعتصام التحرير وتوتر العلاقة بين المعتصمين والمجلس العسكري ما كان يمكن خروج القوى الإسلامية بمليونيتها الغريبة عن روح الثورة والتي أثارت كثيراً من المخاوف والأسئلة، وأخيراً لولا تأييد مليونية الشريعة للجيش ما أقدم على فض اعتصام التحرير. باختصار، مليونية 8 تموز (يوليو) الماضي واستمرار الاعتصام هما محرك الأحداث، فقد شكلا معاً الموجة الرابعة من الثورة المصرية والتي ضمت عشرات الائتلافات الثورية والأحزاب الجديدة، وخليطاً واسعاً من بسطاء المصريين وأسر الشهداء، وهذا الجمع بدا من دون قيادة أو تنظيم، ومن دون رؤية أو استراتيجية أو حتى أهداف محددة. ومع ذلك أدت تحركاته إلى تشكيل وزارة جديدة، والإسراع بمحاكمة الرئيس ونجليه والمتهمين بقتل المتظاهرين، والحصول على وعد من المجلس العسكري بإصدار مبادئ فوق دستورية شرط توافق القوى السياسية عليها، علاوة على تأجيل إجراء الانتخابات البرلمانية. لكن مكاسب الموجة الثورية الرابعة أنتجت نقيضها، فتشدد المعتصمين وتصعيدهم غير المحسوب بإعلان العصيان المدني قلّصا من حجم التأييد الجماهيري لهم، وظهر بوضوح أن افتقار غالبية المعتصمين الى الخبرة السياسية والقدرة على التفاوض عجّل باصطدام غير مطلوب مع الجيش تجسد في تظاهرة العباسية التي قصدت وزارة الدفاع. وعلى رغم أخطاء المجلس العسكري واتهاماته غير المبررة لحركتي «6 إبريل» و «كفاية» بتلقي تمويل من الخارج، إلا أن هتاف المعتصمين في التحرير ضد العسكر والمشير طنطاوي ضاعف من الفجوة بين المعتصمين والشارع الذي ينظر في أغلبيته إلى الجيش باعتباره حامي الثورة والقادر على تحقيق الاستقرار وحماية الأمن القومي. أخطاء المعتصمين واختلافاتهم تجاوزت بكثير أخطاء المجلس العسكري، لكنها في المجمل أبعدتهم عن الرأي العام، ونبهت المجلس العسكري إلى أهمية الموازنة بين تشدد معتصمي التحرير واختلاف وتشتت القوى المدنية، وبين اعتدال القوى الإسلامية، وإمكانية التفاهم معها خلال المرحلة الانتقالية، خصوصاً أن القوى الإسلامية شعرت بالتهميش في الخطاب الإعلامي، وضاقت بوعد إقرار المبادئ فوق الدستورية وتأجيل الانتخابات البرلمانية، من هنا بدت مستعدة تماماً للتحرك واستعراض قوتها حتى تؤمن نصيبها في مرحلة بناء الدولة من خلال مليونية جديدة انطلقت تحت اسم الإرادة الشعبية ووحدة الصف، لكنها جاءت على النقيض من اسمها، فقد جسدت الانقسام والاختلاف الفكري والسياسي بين قوى الثورة، ولم تعبر عن عموم إرادة الشعب المصري بل عبرت وبوضوح عن القوى الإسلامية ورؤيتها لشكل الدولة في مصر. من هنا يمكن وصفها بمليونية الشريعة، وهي مليونية كاشفة توضح ما يأتي: 1- نجاح القوى الإسلامية بخاصة الجماعات السلفية في تحقيق أقصى حشد ممكن من خلال استدعاء عناصرها في الريف والمدن الصغيرة للحضور إلى ميدان التحرير وميادين المحافظات، على رغم أن كثيرين منهم لم يشاركوا أصلاً في الثورة، وقد لبى هؤلاء النداء من منظور ديني وليس سياسي، وبرزت وللمرة الأولى الكثرة العددية للجماعات السلفية - لاحظ أنه الحشد الأول للسلفيين - مقارنة ب «الإخوان» و «الجماعة الإسلامية» والتيارات الجهادية. ما يعني أن الهيمنة هي للجماعات السلفية في الحركة الإسلامية، وهذا مؤشر بالغ الأهمية والخطر سيؤثر في نتائج الانتخابات المقلبة من زاوية أن القوى الإسلاموية الأقل معرفة وخبرة بالسياسة قد تحصل على أكبر عدد من المقاعد في البرلمان. 2- نجاح القوى الإسلاموية في تأميم ساحات الثورة لصالحها - إذا جاز الوصف - بعد أن انسحبت القوى الأخرى، وفضّل كثير من المصريين العاديين عدم المشاركة ربما خوفاً من وقوع صدامات بين القوى المدنية والإسلاموية، لكن السؤال هو: هل يمكن أن تستمر سيطرة الإسلامويين على ميادين الثورة والتحركات الجماهيرية لحين إجراء الانتخابات؟ أعتقد أن من الصعب تماماً إن لم يكن من المستحيل انفراد الإسلامويين أو أي فصيل سياسي بالعمل الجماهيري وباستمرار مناخ وأداء الثورة وموجاتها المتلاحقة. 3- رفعت المليونية شعارات وهتافات لم تظهر أثناء الثورة المصرية عن إسلامية الدولة ورفض المبادئ فوق الدستورية، واستبدل المشاركون هتاف «ارفع راسك فوق أنت مصري» ب «ارفع راسك فوق أنت مسلم!»، الأمر الذي شكل تحولاً في خطاب الثورة المصرية، يتناقض مع طبيعتها الاحتجاجية الديموقراطية والتي ركزت على رفض الاستبداد والمطالبة بالحرية والتغيير والعدالة الاجتماعية، مع السماح لكل الفصائل بالعمل المشترك تحت شعارات وأهداف عامة، تجمع ولا تفرق، فالثورة المصرية منذ انطلاقها وحتى الجمعة الماضية لم ترفع أي شعارات من أي نوع عن طبيعة الدولة والمجتمع بعد هدم نظام مبارك، فلم يرفع المتظاهرون، ربما باستثناءات محدودة، شعارات عن دولة اشتراكية أو مدنية. لكن القوى الإسلامية وأغلبها من الجماعات السلفية التي تفتقر الى المعرفة والخبرة السياسية بادرت بفرض الطابع الديني على الثورة وتجييرها لحسابها، ما دفع البعض الى وصف ما حدث بأنه انقلاب أو سطو من القوى الإسلامية على الثورة. 4- إن القوى الإسلاموية مارست استعراضاً للقوة مع استبعاد أو تشويه ممنهج لمعظم القوى السياسية المختلفة معها من منظورين: الأول حرية الرأي والتعبير وأن ميدان التحرير وميادين مصر ليست حكراً على القوى الليبرالية والعلمانية، والثاني الدفاع عن الإسلام وهوية المجتمع ضد تطرف وغلو الليبراليين والعلمانيين الملحدين، فهؤلاء وغيرهم بحسب خطاب السلفيين يخافون من نتائج صندوق الانتخاب والتي لن تأتي لصالحهم، ومن ثم طالبوا بمبادئ فوق دستورية وهي مرفوضة، لأن الدستور يجب أن يضعه الشعب – غالبيته مسلمون – من دون أي قيود أو مبادئ فوق دستورية، سوى الشريعة الإسلامية التي يجب أن تعلو على الدستور والقانون. وأعتقد أن الشعور بالقدرة على تحقيق مكاسب كبيرة في أي انتخابات قادمة هو ما يفسر شعور الاستعلاء الذي عكسه خطاب وسلوك القوى الإسلاموية، وهو في المجمل خطاب غير حقوقي وإنما يستعير بعض المقولات الحقوقية ويدمجها من دون اتساق مع الخطاب التقليدي في شأن تطبيق الشريعة الإسلامية، والأهم أن هذا الخطاب لا يتسق مع أهداف الثورة المصرية، وقيم المواطنة واحترام حقوق المختلفين فكرياً وسياسياً مع المشروع السياسي للقوى الإسلاموية في مصر، بل يخلط بين الدين والسياسة والدعوة، ويكفّر المختلفين معه. 5- عكست هتافات ومواقف القوى الإسلاموية في جمعة الشريعة تأييداً ودعماً غير مشروطين للجيش والمجلس العسكري، مع مطالبته وبلغة هادئة بمحاكمة قتلة الثوار واستكمال أهداف الثورة وإلغاء المبادئ فوق الدستورية، وأظن أن المجلس العسكري كان في حاجة إلى مثل هذا الدعم بعد أن أربكته قلة خبرته وأخطاؤه من جهة واندفاع وعدم مسؤولية بعض القوى الثورية من معتصمي التحرير من جهة ثانية. في هذا السياق لا بد من الإقرار بحقيقة أن غالبية الجماعات السلفية لم تعارض مبارك أو تخرج عليه باعتباره حاكماً مسلماً، وجاءت مشاركتها في الثورة متأخرة. ويرى السلفيون في المشير طنطاوي الحاكم الجديد للبلاد والذي لا يجب الخروج عليه، بل دعمه والوقوف بلا تحفظ إلى جانب المجلس العسكري اتقاء لشر الفتن والانقسامات. أكثر من ذلك فإن غالبية الجماعات السلفية مستعدة للتنازل عن محاكمة مبارك ونجليه إذا كانت تلك المحاكمة ستفتح باباً للفتن. الحقائق الخمس الكاشفة لمليونية الشريعة تجسد على الأرض ثلاثة تناقضات رئيسية: 1- التناقض والاستقطاب الفكري والسياسي بين القوى الإسلاموية والقوى المدنية (عديد من الأحزاب الليبرالية والاشتراكية والناصرية)، مما يهدد بانقسام المجتمع وقوى الثورة، والأهم يبدد طاقة الثورة وقدرتها على الاستمرار لتحقيق أهدافها في وقت ظهرت انتقادات لمسار الثورة المصرية وصلت إلى حد التساؤل هل هي ثورة حقيقية أم ثورة مجهضة أم نصف ثورة أم مجرد انقلاب لتحسين صورة نظام مبارك وتغيير رموزه. من هنا لا بديل عن حوار فرقاء الثورة وسرعة الاتفاق بين القوى الإسلاموية والمدنية على خريطة الطريق في المرحلة الانتقالية وشكل الدولة والمجتمع في مصر بعد مبارك. 2- غياب غالبية المجتمع بمواقفها الوسطية عن المجال العام وساحة العمل السياسي، ويفترض أن تلك الغالبية الصامتة – همّشها نظام مبارك سنوات طويلة – تمتلك رؤية وسطية متسامحة تعبر عن الروح الوطنية المصرية التي ترفض التشدد الإسلاموي والعلماني، وتفضل التعايش بين هوية إسلامية لدولة وطنية حديثة ومدنية. لكن الأزمة أن الأطر السياسية والأحزاب القديمة والجديدة فشلت في تفعيل دور ومشاركة هذه الأغلبية الصامتة أو حتى ضمان مشاركتها في الانتخابات المقبلة. 3- يمكن القول إن المجلس الرئاسي القابض على السلطة هو المستفيد الأكبر من نتائج مليونية الشريعة، لكن الجيش المصري يواجه إشكالية تتعلق بصدقية التزامه بالدولة المدنية الحديثة أمام الداخل والخارج، ومدى التوافق بين تكوينه وتدريبه كأهم قوة في الدولة المصرية المدنية، وبين إمكانية التفاهم أو حتى السكوت عن هيمنة القوى الإسلاموية أو وصولها الى الحكم، ولا يخفف من ذلك أن الجيش اضطر إلى التفاهم مع القوى الإسلاموية والتي تمثل أقصى اليمين بعد أن أرهقته مزايدات وصبيانية القوى المتشددة في الثورة – أقصى اليسار-، وتشرذم القوى والأحزاب المدنية، لكن السؤال الذي يطرح نفسه: هل يكون البديل هو التحالف مع أقصى اليمين، وهل يستطيع المجلس العسكري بخبرته المحدودة ترشيد أداء القوى الإسلامية وإدماجها ضمن عملية التحول الديموقراطي؟ وهل يمكن أن يكون حكماً بين الفرقاء المنقسمين على طبيعة الدولة ودور الدين في المجتمع؟ ان قيام الجيش المصري بهذا الدور يدخله مباشرة في اللعبة السياسية وعلى غرار ما قام به الجيش في التجربة التركية. ومهما كانت سلبيات هذا الدور فسيكون أفضل لمصر ولثورتها من سيناريوين: الأول استمرار الجيش في الحكم ربما بدعم أميركي وأوروبي يحركه الخوف مما يعرف بخطر وصول الإسلاميين الى الحكم في مصر، والثاني قيام تحالف بين الجيش والإسلامويين وفلول الحزب «الوطني» - أبناء العائلات الكبرى ورجال الأعمال – يتقاسم فيه هذا التحالف البرلمان والوزارة وتظل السلطة بيد الجيش. * كاتب مصري