ظهر الحديث عن التستّر في بلادنا منذ أكثر من ثلاثة عقود. والحديث عن التحويلات الفلكية للعمالة بدأ وتكرر منذ أكثر من ربع قرن. وعلى الرغم من ذلك؛ فإن التستر استمر، والتحويلات الفلكية استمرّت. وليس لدى وزارة المالية ووزارة التجارة إلا ما تقوله سنوياً عن حجم التحويلات المليارية. إحصاءات وأرقام، ومقارنات، ليس إلا. وحتى الآن لم تُنتج الوزارتان ومعها وزارة العمل ما يمكن اعتباره تنظيماً ضابطاً للهدر الاقتصاديّ الهائل الذي يتكرر سنوياً عبر القنوات المصرفية. هناك أنظمة ولوائح عمل، ومثلها للتجارة، ومثلها للمعاملات المالية. ومن بين هذه التنظيمات «تنزلق» المليارات سنوياً عبر القنوات النظامية. وبإمكان عامل نظافة راتبه 1500 ريال أن يحول خمسين ألف ريال شهرياً إلى بلاده، بلا رقيب ولا حسيب. يستقدم مواطن بسيط عشرين عاملاً، ويتستّر عليهم، وحين يُكتشف يُضرب بيد النظام وينال عقاب تستّره. لكن النظام نفسه لم يضرب رجل أعمال كبيراً استقدم 500 عامل، ولا مالك شركة كبيرة استقدمت ضعف هذا العدد، ولا شخصية نافذة مرّر الإجراءات عبر اسم زوجته أو أحد أبنائه. والسبب هو أن التشريعات التي من شأنها مكافحة التستّر تتستر بنفسها على الكبار، أو لنقل تغضّ الطرف عنهم، وتمرّ بجانبهم دون أن تستطيع توجيه سؤال لأحد منهم. ولذلك؛ هناك شركات متسترة ومؤسسات متسترة، والأنظمة في ذاتها تحمل ثغرات واسعة لعبور التستر بسلام من بوابات المصارف المنتشرة، وعبور المليارات إلى خارج البلاد، وعبور الإجراءات عبر قنوات الصادر والوارد والترخيص وتجديد الترخيص، والاستقدام والترحيل، ونقل الكفالة وإنهائها. كل ذلك يحدث لأن اللوائح التنظيمية تفتقر إلى التكامل الذي يكفل وضع حدود واضحة للمخالفات. تتكرر المخالفات وتصبح واقعاً مقبولاً بحكم تكرارها وإلفتها، حتى يُصبح الخطأ صواباً، وتخسر البلاد سيولات مالية هائلة من شأنها أن تكون جزءاً من دورة الاقتصاد، وتتحوّل العلاقات التجارية بيننا وبين كثير من الدول الصديقة إلى مجرى ماليّ ذي مسار واحد.. مسار يحمل الأموال ولا يعود منها شيء. المطلوب هو تعميق العلاقة بين الأنظمة والتشريعات واللوائح التنفيذية، وهناك كثير من دول العالم الثالث وليس الأول فحسب نجحت في حماية اقتصادها من الهدر الذي ينتج عن هجرة الأموال الضحمة من مصارفها.. فهل يهب المشرّعون إلى «تقليد» مثل هذه الدول على الأقل..؟