«مجنون آخر يبحث عمّن يراسله على صندوق بريده..» كتبتها إحداهنّ في رسالتها التي وصلتني بعد أن أرسلتُ تغريدة على تويتر قلتُ فيها إنني أشتاق إلى رسالة مكتوبة بخط اليد، ثم وضعتُ عنوان صندوق بريدي ووعدتُ بإرسال رسالة مكتوبة بخط يدي -الرديء- إلى كل من يراسلني. وبعد أيامٍ قليلة ذهبتُ إلى مركز البريد وعندما فتحتُ صندوقي تناثرت الرسائل على الأرض كأوراق الخريف. لم أستطع الانتظار حتى أصل البيت لفتحها، فلقد مضى زمنٌ لم تصلني فيه عبر بريدي سوى الفواتير والرسائل الدعائية التي تخلو كلها من مشاعر. مع الأسف، لم تصلني رسالة غرامية واحدة، ولكن وصلتني رسائل إنسانية كثيرة تحكي كل منها جزءاً من حياة كاتبها أو كاتبتها. فكل رسالة تحوي خطاً مختلفاً، روحاً مختلفة.. رغبات وانكسارات، طموحات وأحلاماً، اشتياقاً والتياعاً. كانت الرسائل تنضح برائحة المشاعر المكبوتة في صدور أصحابها. لمستُ في كلام المرسلين رغبة ملحة في «الفضفضة» والتحدث عن كل شيء، وعن أي شيء. معظم الرسائل كانت تتحدث عن الشوق إلى الحرية، وانتقاد الماضي المتعسف المملوء بالخطوط الحمراء، كما وصفته إحداهنّ. سردت إحدى المرسلات حكايات عن طفولتها، في تسع رسائل متتالية لم تحمل اسماً أو عنواناً. كانت رسائلها تروي قصّة شبّاك صغير يفصل بين منزلها والدكان الذي كان صاحبه يرسل رسائلها مع رسائل الخادمات في الحي. ثم تتلقى الردود من مراسليها بالطريقة نفسها؛ حتى لا يكتشف والدها بأنها تراسل أصدقاء وصديقات في مختلف بقاع العالم، على الرغم من أن رسائلها لم تكن عاطفية. ثم حكت عن قصاصات الروزنامة التي كانت تصدر من مؤسسة الشؤون الإسلامية، تلك التي تحوي التأريخ الميلادي والهجري ومواقيت الصلاة، وفي خلف كل ورقة كُتِبَت حكمة ما. كانت أمها تطلب منها أن تقرأ لها الحكمة كل يوم، وحتى بعد وفاة أمها مازالت تقرأ تلك القصاصات. إن كتابة الرسائل تعد فنّاً أدبياً رفيعاً، لأنها تصوّر الحالة الشعورية لصاحبها الذي يتجرّد من كل قيد وشرط، ليكتب بروحه لا بقلمه. ففي كتاب جواهر الأدب لصاحبه السيد أحمد الهاشمي نجد أنواعاً مختلفة من الرسائل كالشوق، والتعارف، والملام، لا تخلو من لغة رصينة، ومشاعر دفينة، ورموزٍ تتطلب لفكّها إلماماً بالشعر والبلاغة. كَتب الهاشمي رسالة إلى أحد أصدقائه بدأها بقوله «كتابي لديك يصفُ شوقي إليك، ولا يخفى عليك، فمُذْ فارقتني فرّقت بين أُنسي ونفسي، بل بين روحي وجسمي..»، ثم ختمها «فلا عجب إن كان شوقي لرؤيتك عظيماً لأنه كما قيل، مِن كَرم الرّجل حنينه إلى أوطانهِ وشوقه إلى إخوانه». انتَقَدَتْ إحدى الرسائل التي وصلتني التكنولوجيا واتهمها صاحبها بأنها أصابت مشاعرنا بالبلادة، حيث قال «الكتابة الإلكترونية تعطينا مجالاً للمسح، ولطمس نقاط ضعفنا وترددنا». ولقد وجدت كلامه جَلِياً في مخطوطات جبران الأصلية، التي لا تكاد تُقرأ لكثرة ما يُبدّل الكلمة الواحدة، أو لتكرار شطبه للجُمَلِ وإعادة صياغتها من جديد، مما يدلنا على الشخصية القلقة التي كان يعاني منها جبران.. وكما قالت إحداهنّ على تويتر «قلقه كان أحد أسرار إبداعه». لقد خلَت بعض الرسائل التي وصلتني من تاريخ وعنوان، وأظن أن أصحابها كانوا يرغبون في تخليدها، كانوا يريدون الهروب من الزمان والمكان، لتبقى ذكرى في برزخ الأمنيات، لا تدري متى بدأت ومتى تنصرف. أرفقت لي صاحبة قصاصات الروزنامة قصاصة قطعتها بتاريخ الثامن من ديسمبر 2011 كُتِب عليها «نحن نتقابل مع الناس كل لحظة، ولكننا لا نتقابل مع أنفسنا إلا نادراً». جلستُ أفكّر في هذه المقولة طوال رحلة بالطائرة استغرقت 16 ساعة، فوجدتُني أكتب على الورق -على غير عادتي- لأكتشفَ مدى ابتعادي عن نفسي، فما أصعب أن ندوّن حديثنا عن أنفسنا على الورق، ما أقسى أن نُحبّ على الورق، أن نشتاق على الورق، أن ننتظر ونتذكر ثم نبكي على الورق.. الرسائل تحيل الأوراق إلى حياة كاملة، منتشية بتفاصيل من نهوى، أو موتٍ كامل، ينضح بالاشتياق إليهم. كم تحكي الحروف التي كُتِبَت بأيدينا عنّا، عمّا كُنّا، ثم عما نريد أن نكون، أو ألا نكون. الأوراق تجعلنا نقف كثيراً لنفكر أكثر، وهذا الفعل يدفعنا إلى التواصل مع أنفسنا والغوص في أعماقها.. ثم توصلتُ قبل هبوط الطائرة إلى أن الكتابة على الورق هي إحدى الأماكن التي نتقابل فيها مع أنفسنا. حكت لي إحداهنّ عن محاولاتها الفاشلة للانتحار، ثم عن مدى حُبّها للحياة بعد أن عادت إليها، ولذلك رغبت في كتابة رسالة بخط يدها وإرسالها إلى أي مكان، فالمهم أن يقرأها أحد. أما أجمل رسالة وصلتني فلقد كُتِبَ فيها «بعض رسائلنا نكتبها لأنفسنا قبل أن نكتبها للآخرين، وبهذا فإننا لا نعبأ حقاً إن ألصقنا عليها طابعاً أم اكتفينا برميها في أول صندوق يصادفنا في الطرقات».