«حضرنا ولم نجدكم» إحدى أشهر الجُمل في الثمانينيات والتسعينيات الميلادية، ثم بدأت في الاندثار شيئا فشيئاً كغيرها من الجمل والكلمات العربية والتعبيرية التي لم يعد استخدامها مجزياً أو مجديا، فمنذ بداية دخول أنظمة الاتصالات انحسرت ممارسة كثير من الأقوال والأفعال، ومن الخير الذي كنا نكرهه هي قوائم الانتظار تلك التي امتدت لأعوام حتى يتمكن المواطن من الحصول على رقم هاتف أرضي، ولو كان للأرقام تسميات كأسماء البشر لأطلق بعضهم على أرقام «تلفونه» في ذلك الحين اسم والده ووالدته فرحاً وشموخاً وشعوراً بالتميّز عن سائر البشر، ولولا ذلك التأخير في منح المواطنين خدمة الهاتف لكان من المتوقع أن يُحرم جيل كامل من «حضرنا ولم نجدكم»، ثم تطورت أدوات الاتصال لتدق المسمار الأخير في نعش بعضٍ من أشكال «التواصل» القديمة، ولتحل محلها أشكال جديدة لا خلاقَ لها، حتى إن بعضهم يحاسبك دون أن يقصد على حصتك في الراحة وحقك في الوقت، فإن لم تجب على اتصاله أو على رسالته أو حتى لمجرد وجودك في حالة اتصال ولم تقرأ إشارته، جعل ذلك الفعل من خوارم المروءة، دون التفكر منه في أوقات اتصاله وسؤاله التي لا تناسب طرفا سواه، وما أكثر المتشابهات علينا في مجتمعنا وإنما من باب المقارنات. وجدت في صندوق الوارد لأحد حساباتي البريدية الإلكترونية أكثر من 150 رسالة لأحد الأصدقاء النمساويين يبدأها كل مرة «عزيزي عبدالله» خلال أكثر من عام، هذا الأمر بدا لي مقلقاً فقط لأنني لم أعتد عليه في موروثي الاجتماعي وليت مجتمعي كلهم ذلك النمساوي، إن أدوات الاتصال المختلفة تؤثر إيجابا أو سلبا على مستخدميها حسب طبيعة وطريقة الاستخدام، لكن الإفراط في جعلها قياس الحكم على الآخرين شيء ينافي الطبيعة الإنسانية وأخلاقياتها الحميدة، وعود على ذي بدء أسأل عن حال أهلنا الذين سبقونا قبل أن يتسنى لهم تعلم الكتابة والقراءة، كيف كانت نظم اتصالاتهم. وما هي بدائلهم عن «حضرنا ولم نجدكم».!