كانت السعودية وما زالت محور ارتكاز في أمن المنطقة والسلام الإقليمي، كما أن لها دورها الرئيس في استقرار أسواق الطاقة وتأثير ذلك على الاقتصاد العالمي، إضافة إلى تحالفها مع الولاياتالمتحدة في مواجهة الشيوعية سابقاً، ودورها الفاعل والمؤثر وتجربتها الناجحة في محاربة الإرهاب حالياً. ارتباط تلك الملفات بالأمن القومي الأمريكي يبيّن الدور السعودي المهم بالنسبة للسياسة الخارجية الأمريكية بغض النظر عمن يجلس في المكتب البيضاوي. ورغم علاقات المصالح واستراتيجية التحالف؛ فقد واجه البلدان الصديقان أزمات عدة وخيارات صعبة بسبب تعقيدات العلاقة وأولويات المنافع لكل دولة، والفوارق السياسية والثقافية بين البلدين. تاريخياً؛ كان أكثر الملفات حساسية في تلك العلاقة هو ملف الصراع العربي الإسرائيلي، فأولى الأزمات في عهد الرئيس ترومان عام 1948م كانت بسبب الاعتراف الأمريكي بإسرائيل. ومع أن العلاقات السعودية مع الإدارات المنتمية للحزب الجمهوري كانت أكثر انسجاماً وتناغماً من تلك التابعة للحزب الديموقراطي، إلا أن أبرز الأزمات بين البلدين وقعت في عهد الإدارات الجمهورية! فمن أزمة حظر النفط في عهد الرئيس نيكسون عام 1973م، إلى أزمة الصواريخ الصينية في عهد الرئيس ريجان عام 1988م، والتي تسببت في طلب الملك فهد إبعاد السفير الأمريكي هيوم هوران من الرياض، والذي لم يمض على تعيينه حينها سوى 6 أشهر. إلا أن كارثة سبتمبر التي نفذها تنظيم القاعدة الإرهابي بهدف ضرب العلاقات السعودية الأمريكية وزجّ فيها ب 15 إرهابياً- من المهاجمين ال 19- ممن يحملون ومع الأسف الجنسية السعودية؛ أقحمت المملكة في أكبر الأزمات وأعمقها أثراً. وكان ذلك في عهد الرئيس (الجمهوري) جورج بوش الابن عام 2001م. ورغم أن البلدين استطاعا تجاوز كثير من تداعياتها، وبذلت المملكة جهوداً دبلوماسية كبيرة لتخطيها، إلا أن آثار تلك الأزمة ما زالت باقية وستستمر حتى حين. لقد كانت كارثة سبتمبر نقطة فارقة في تاريخ أمريكا بل والعالم ككل، وليس فقط في تاريخ العلاقات السعودية الأمريكية. فالولاياتالمتحدة بعد سبتمبر ليست هي نفسها قبله، تغيرت السياسات، وتقلبت العلاقات، وتبدل المزاج العام، وتبعاً لذلك تحول المزاج السياسي الأمريكي. على الجانب الآخر؛ تغير العالم وتغيرت المنطقة وتغيرت السعودية كذلك. آخر فصول الأزمات في العلاقات السعودية الأمريكية، وأحد تداعيات كارثة سبتمبر، كان مع إدارة الرئيس أوباما، حيث تم إقرار قانون (العدالة ضد رعاة الإرهاب) والمعروف باسم (جاستا)، والذي يتعارض مع مبدأ الحصانة السيادية للدول ويسمح بمقاضاة حكومات أجنبية في المحاكم الأمريكية. القانون المثير للجدل تم إقراره خلال شهر سبتمبر 2016م من قبل الكونجرس، الذي تجاهل فيتو الرئيس أوباما، في خضم حملة الانتخابات الرئاسية بين دونالد ترامب وهيلاري كلينتون. المرشح (حينها) ترامب تحدث خلال الحملة عن المملكة العربية السعودية وعلاقتها بأمريكا بشكل سلبي. خلال مقابلته مع وولف بليتزر على شبكة (سي إن إن)؛ رد وزير الخارجية السعودي عادل الجبير على تلك التصريحات بقوله: «المملكة العربية السعودية دولة حليفة للولايات المتحدة وتستطيع الاعتماد على نفسها، ولا نعتمد على أحد ليقدم لنا الدعم». وأضاف: «أعتقد عندما تنتهي الحملة ويدخل المرشح المكتب البيضاوي ويطّلع على التقارير الرسمية، فوجهة نظره ستتغير وستعكس حقيقة العلاقات وليس ما يتردد خلال الحملات». بعد فوز ترامب؛ قال الجبير: «نحن متفائلون إزاء الإدارة الجديدة ونتطلع للعمل معها وفق مصالحنا المشتركة». وأضاف: «لدينا الأهداف نفسها مع أنه لا يمكن الاتفاق حول سبل تنفيذها». بعد أيام من توليه مهام الرئاسة؛ أجرى الرئيس الأمريكي ترامب اتصالاً هاتفياً بخادم الحرمين الشريفين استمر زهاء الساعة يوم 29 يناير 2017م. وجاء في بيانٍ للبيت الأبيض: «الرئيس ترامب أجرى اتصالاً هاتفياً بالملك سلمان، والزعيمان أكدا على عمق العلاقات التاريخية والشراكة الاستراتيجية بين البلدين، واتفقا على تقوية الجهود المبذولة لمكافحة انتشار الإرهاب، والعمل سوياً لمواجهة التحديات التي تواجه أمن واستقرار المنطقة بما في ذلك المواجهات في سوريا واليمن. وقد طلب الرئيس دعم فكرة المناطق الآمنة في كل من سوريا واليمن وكذلك دعم الأفكار الأخرى لمساعدة اللاجئين الذين تسببت الأوضاع غير المستقرة في نزوحهم، واتفق الزعيمان على ذلك، كما اتفقا أيضاً على الأهمية القصوى لفرض خطة عمل مشتركة تجاه إيران لمواجهة نشاطاتها لزعزعة استقرار المنطقة. الرئيس عبّر عن دعمه لرؤية المملكة (2030) وبرنامجها الاقتصادي. الزعيمان أبديا رغبتهما في بحث إجراءات إضافية لتقوية العلاقات الثنائية في المجالات الاقتصادية والتعاون في مجال الطاقة. كما ناقش الزعيمان الدعوة الموجهة من الملك سلمان للرئيس ترامب للقيام بدور رئيس للقضاء على الاٍرهاب وبناء مستقبل أفضل اقتصادياً واجتماعياً لشعوب المنطقة. واختتم الزعيمان محادثتهما الهاتفية بالتأكيد على التزامهما الشخصي باستمرار التشاور حول الملفات الثنائية وكافة القضايا الإقليمية». توالت الاجتماعات بعد ذلك بين المسؤولين السعوديين والأمريكيين. وصدر بيانٌ عن الديوان الملكي يوم الإثنين 13 مارس 2017م عن توجُّه الأمير محمد بن سلمان ولي ولي العهد إلى واشنطن في زيارة عمل يلتقي خلالها الرئيس ترامب يوم الخميس 16 مارس. إلا أن اللقاء قُدِّم إلى الثلاثاء 14 مارس بسبب تأجيل المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل زيارتها لواشنطن للقاء الرئيس ترامب، والتي كانت مقررة يوم الثلاثاء، إلى يوم الجمعة، بسبب العاصفة الثلجية التي ضربت شمال شرق الولاياتالمتحدة. الرئيس الأمريكي استضاف ولي ولي العهد في البيت الأبيض، والاجتماع الذي كان متوقعاً أن يكون قصيراً (لقاء وتحية)، حسب وصف صحيفة «النيويورك تايمز»، تحوّل في اللحظات الأخيرة إلى غداء عمل رسمي بحضور أركان الإدارة. مصادر قريبة من أجواء اللقاء ذكرت أن التوافق والانسجام الكبيرين بين الرجلين جعلا الرئيس الأمريكي يبدي حماسه لسماع الأفكار والرؤى السعودية وبكافة التفاصيل مما دفعه لاستدعاء عدد من المسؤولين الأمريكيين للاستماع لما يقوله الأمير، وهو الأمر الذي حوّل المقابلة إلى لقاء مطول تخللته إقامة مأدبة غداء في الجناح الشرقي للبيت الأبيض. التقارب الكبير بين الرئيس الأمريكي وولي ولي العهد حدا بأحد المراقبين إلى التذكير بما سطره وليام إيدي عن لقاء الملك عبدالعزيز بالرئيس روزفلت: «منذ أن وطئت قدما الملك البارجة (كوينسي ) والتقى بروزفلت وجهاً لوجه حدثت الألفة بين الرجلين وبدأ كلاهما بالبحث عن أوجه التشابه لا الاختلاف. كان التركيز على ما يجمع لا ما يفرق. رغم الفارق الثقافي كان للقلوب أهدافها الخاصة، كانت كاريزما ودبلوماسية الرجلين حاضرة ……» الرئيس وكبار مساعديه يرون السعودية دولة محورية رائدة للعالم الإسلامي، من هنا جاء اختيار ترامب لذلك اللقاء لتوضيح موقفه (الغامض) من الإسلام وتصريحاته التي أحدثت قلقاً في العالم الإسلامي، بما في ذلك قرار حظر السفر الموجه للدول الإسلامية في الأساس والذي أحدث ردود فعل متباينة داخل أمريكا، ويُنظَر إليه كوفاء من ترامب بوعده الانتخابي بحظر دخول المسلمين إلى الولاياتالمتحدة. ووفقاً لمصدر سعودي لوكالة «بلومبيرغ»؛ فإن «الأمير محمد ناقش مع الرئيس ترامب قضية منع دخول بعض مواطني الدول الست (إيران والصومال وسوريا والسودان وليبيا واليمن) للولايات المتحدةالأمريكية. وأكد الأمير أن المملكة العربية السعودية لا ترى في هذا الإجراء أي استهداف للدول الإسلامية أو الدين الإسلامي بل هو قرار سيادي لمنع دخول الإرهابيين إلى الولاياتالمتحدة. وقد بيَّن الرئيس ترامب احترامه الكبير للدين الإسلامي باعتباره أحد الديانات السماوية التي جاءت بمبادئ إنسانية عظيمة تم اختطافها من قِبَل الجماعات المتطرفة، فيما أكد الأمير محمد أن المعلومات السعودية تفيد بالفعل أن هناك مخططاً ضد الولاياتالمتحدة تم الإعداد له في تلك الدول بشكل سري من هذه الجماعات، مستغلين بذلك ما يظنونه ضعفاً أمنياً فيها للقيام بعمليات ضد الولاياتالمتحدة. وأبدى تأييده وتفهمه لهذا الإجراء الاحترازي لحماية الولاياتالمتحدة من العمليات الارهابية المتوقعة. وأبدى الامير محمد ارتياحه بعد اللقاء للموقف الايجابي والتوضيحات التي سمعها من الرئيس ترامب حول موقفه من الإسلام». وقد استبشر رئيس مجلس علماء باكستان طاهر أشرفي بتلك التوضيحات. وقال إن «إبداء الأمير محمد بن سلمان ارتياحه بعد لقاء الرئيس الأمريكي ومعرفة موقفه الإيجابي وسماع توضيحاته حول موقفه من الإسلام؛ هو ارتياحٌ للعالم الإسلامي الذي كان متسائلاً حول الموقف الغامض لترامب نحو الإسلام.. كما أن المملكة وقيادتها الرشيدة، وعلى رأسها خادم الحرمين الشريفين، الملك سلمان بن عبدالعزيز، هي رائدة الدول العربية والإسلامية ولها دور قيادي في العالم، وهذا ما يظهرُ عياناً من جولات وزيارات قادة المملكة ومسؤوليها». اختيار الأمير محمد ليكون أول مسؤول سعودي وعربي وإسلامي يلتقي ترامب في البيت الأبيض لم يكن مصادفة، ساعد على ذلك التحضير السعودي الجيد الذي سبق اللقاء وتوافُق الرؤى حول قضايا وملفات المنطقة. البيان الصادر عن البيت الأبيض أوضح أن «الرئيس والأمير أكدا خلال اجتماعهما دعمهما لشراكة استراتيجية قوية قائمة على المصالح المشتركة والالتزام باستقرار ورخاء منطقة الشرق الأوسط، وقد وجه الرئيس والأمير فريقيهما باتخاذ خطوات جديدة لتعزيز العلاقات الاستراتيجية القائمة بما يعزز مصالح البلدين على الصعد السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية والعسكرية والأمنية. كما سيبحث المسؤولون السعوديون والأمريكيون اتخاذ خطوات إضافية لتعزيز الروابط التجارية وتشجيع الاستثمار وترسيخ التعاون في مجال الطاقة، وقد أكدا أهمية مواجهة أنشطة إيران المزعزعة للاستقرار مع مواصلة تقييم الاتفاق النووي. وقد أعرب الرئيس عن رغبته في التوصل إلى تسوية عادلة وشاملة للصراع الاسرائيلي الفلسطيني، واستمرار التباحث بين البلدين للمساعدة في التوصل إلى حلول لقضايا المنطقة. كما ناقشا التعاون الأمني والعسكري المستمر بين البلدين لمواجهة داعش والتنظيمات الإرهابية الأخرى التي تمثل تحدياً لكل الدول. وقد أعرب الرئيس ترامب عن دعمه لتطوير برنامج أمريكي سعودي يركز على الطاقة والصناعة والبنية التحتية والتقنية وباستثمارات تتجاوز( 200 مليار دولار) خلال الأربع سنوات المقبلة. إضافة إلى الرغبة في مواصلة المباحثات الثنائية من أجل تعزيز الاقتصاد العالمي. كما عرض الأمير رؤية المملكة 2030 على الرئيس وتم الاتفاق على وضع برامج ثنائية لمساعدة البلدين في الاستفادة من الفرص الجديدة التي ستوفرها الرؤية». العلاقات المشتركة، استقرار المنطقة، مكافحة الإرهاب، و»رؤية 2030»؛ حضرت في واشنطن كما حضرت في العواصم الآسيوية. والمتابع للبيانات المشتركة التي صدرت في ختام زيارات خادم الحرمين الشريفين للدول الآسيوية يجد أنها تتطابق إلى حد كبير مع بيان البيت الأبيض عن لقاء ترامب مع محمد بن سلمان، فعلى ماذا يدل ذلك؟ مصادر أمريكية نسبت لأحد مستشاري الأمير قوله إن التعاون بين البلدين بعد الاجتماع التاريخي سيكون في أعلى مستوى له، وإن هناك كثيراً من التفاصيل والأخبار الإيجابية سيتم إعلانها خلال الفترة المقبلة. وأضاف المصدر أن اللقاء تناول عدداً من المواضيع حول دول المنطقة، وأكد البلدان التزامهما بدعم البحرين، ومصر، والسودان، في مواجهة التحديات. وأكدت الإدارة الامريكية حرصها ودعمها على تعزيز جهود المملكة في الجوانب الدفاعية والأمنية والالتزام بإمدادها بما تحتاج في هذا الجانب. كما تناقش الجانبان حول التجربة السعودية الناجحة بإقامة سياج عازل بين السعودية والعراق؛ وأنه أدى إلى عدم تسلل أي شخص أو أي عملية تهريب منذ أن تم تشييده. بالتأكيد هناك مواضيع أخرى تم التطرق لها خلال الاجتماع وقد يمر وقت طويل حتى نعلم عنها، لكن المؤكد أيضاً أن الزيارة لم تكن زيارة تعارف كما يصورها بعضهم، بل كانت زيارة لإيضاح المواقف وفهم التوجهات ومواجهة الأزمات وحل المشكلات. ويُتوقّع أن تكون هناك لقاءات وزيارات بين مسؤولي البلدين على أعلى المستويات خلال المقبل من الأيام لتفعيل ومتابعة ما تم الاتفاق عليه. أما الاحتفاء الاستثنائي بولي ولي العهد في واشنطن فيعكس مكانة المملكة وثقلها الاستراتيجي وتقدير العالم واحترامه لقيادتها ونهجها السياسي وتأثيرها الإيجابي على الصعيدين الإقليمي والدولي.